قراءة ..عبده خال
نورة الغامدي حين كتبت مجموعتها "تهواء" كانت تستدرج الحكاية الشعبية إلى عوالم متداخلة تحاول فيها أن تجد صوتاً أنثوياً يخترق السقف الذي يحد من ارتفاع قامة الأنثى.والسقف ليس استعارة لما احتوت عليه المجموعة، لكنه نص قصصي كتبته الكاتبة لتدخلنا في ذلك العالم الذي تتحول فيه الحياة إلى استدعاء للغائب، حيث يتحول الغياب إلى حضور طاغٍ يحل مكان المعاش وهي بهذه المجموعة أسست لنفس روائي من خلال تشابك العلاقات والعمق التاريخي لتلك الشخوص التي تتحرك في الفضاء القصصي وتشعر بالضيق لمحدودية البوح، ويبدو أن القاصة نورة الغامدي استشعرت بذلك الضيق الذي أطر بوحها في المساحات التي تحد من انطلاقات شخوصها وأفكارهم، ومن هذه الزاوية انطلقت روايتها التي صدرت حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، تحت عنوان "وجهة البوصلة" مستندة على التداعي الذهني الشبيه في بعض الأحيان بالهذيان الباحث عن مساحة لاستيعاب كم الحكايات الكثيفة والمتداخلة ما بين الآني والماضوي، حيث تتفجر الذاكرة بصور من الثقافة العربية المترسخة في الوجدان والتي انتقلت بثقافتها إلى الرجل البسيط ودخلت ضمن تركيبته النفسية والوجودية، فـ"جبر" الشخصية المنسية داخل تلك المزرعة يستحضر وجوده المنسي في تشبيه لا يخلو من استهجان بالذاكرة العربية التي تسقط تاريخها بالنسيان وتسقط قضاياها المصيرية بنفس الأداة.والحدث في مجمله يتنبأ بشمولية فكرة التطبيع مع إسرائيل من خلال حوارية بين "ثامر" الذي يمثل أنموذجاً للرجل المثقف وبين المزارع "جبر" الذي أشار إلى التطبيع بعفوية الرجل البسيط وتركها تتعمق في ذهنية "ثامر" المثقف وربما أرادت الروائية الإشارة إلى أن الأفكار الكبيرة، تأتي من الأفواه البسيطة والمقذوفة على هامش الحياة، هذه الأفكار يلتقطها المثقفون وينادون بها فيما بعد.والروائية بهذه الإشارة تقلب مفهوم تغلغل الأفكار من أعلى إلى الأسفل، وتجعل الفكرة تنبت من أسفل إلى الأعلى.ويشكل كل من الحب والعشق، بمفردتيهما ذات العمق المتباعد في تحدد المشاعر الإنسانية، مفردتين قد تكونان اختباراً في حياة العائلة لإحداث الذوبان فيمن يحب، مرددين بقول مضمر وصريح في أحيان "أنا أحترم اختياري" وبهذه الانتحارية الاختيارية كأنما هي دعوة لفتح باب الموت الذي ينتزعه بمجرد أن يتذوق لسعة الحب في أقوى حالاته وأسماها.وتتلون الأحداث بتلون التداعي الذهني الذي يجعل الاستطراد مزاجياً وفق الحالة النفسية والذهنية للسارد مما يحمل النص آفاقاً متنوعة ربما أدت إلى نوع من التشتت إذا قرئت وفق التسلسل الزمني المبني على وحدة الزمن وتصاعده بينما تجد لها أفقاً متناغماً حين تكون القراءة مستندة على معرفة أن السرد ينطلق من بعده الاستطرادي وفق سرعة المخيلة في تشجر الحدث وتناميه على هيئة لونية يجمعها إطار اللوحة وتغدو الألوان ذات دلالة نفسية تقود إلى عمق اللوحة وهذا ما فعلته نورة الغامدي حيث تدعو إلى ذوبان الألوان في بعضها دون اعتبار لفكرة الأسود والأبيض من مبدأ نبذ العنصرية وضدها من خلال "فضة" في اغتصاب زوجها الذي يهجر فراشها من أجل تطعيم العائلة بلون الكاكاو أو لون عجوة التمر اللامعة.وتحاول الروائية مزج هذا العالم المتداخل بتطعيم التاريخي بما هو أسطوري في تمازج يقترب من التسجيل لفترة ازدهار بيع الإماء والمتاجرة بهن عبر الجزيرة العربية، لتحل إحداهن كجارية عند رجل لا يعرف منها إلا كونها أمة مهمتها تنحصر بكلمة سيدي.هذه العوالم تهطل علينا من خلال بوح حميمي تتبادله الساردة مع الحبيب من خلال سماعة الهاتف وهو عبارة عن حوار يتم فيه سرد تلك الوقائع المتشابكة، وهذا التدفق الهاتفي يشير إلى أزمة الأنثى التي لا تعرف الرجل في حياتها إلا من خلال سماعة الهاتف وهذا يقود إلى خلق معضلة التواصل وخلق نوعية من الحوارات السادرة في الغياب والمنتهية بحالات متخيلة حيث يتحقق الحوار الفكري ويتغلب الهاجس الشهواني.و"علامة" هو الرجل الذي تحاوره الساردة بوصفه الرجل الحلم، والذي رأت فيه الكاتبة الأنموذج للرجل الذي تحلم به كل امرأة عربية للسمو بواقعها عبر حوار فكري يقدر عقليتها أكثر مما يقدر مواهب جسدها، وفي هذه الحوارية الطويلة الممزوجة بالحكايات والعوالم التي تقدر كينونتها وتبعث في نفسها أمل العثور على "علامة" في الواقع وليس من خلال أسلاك الهاتف حيث تكون الـ"علامة" مصطنعة والغايات مخبأة في الصدور، إلا أن هذه الشخصية تسقط كما سقطت في الواقع، فالبحث المحموم عنها يؤدي إلى معرفة نواقصها وارتطامها بالواقع وارتهانها لجذر ثقافتها الذكورية، ويبلغ الهذيان الذهني لهذه الشخصية المفقودة أن تسأل صاحبتها "فضة" الميتة: ـ أين علامة؟.ويتحول الموت إلى انشطار في الشخصية، هو موات بين الحياة الراكدة وبين البحث غير المجدي عن النموذج من خلال أسلاك الهاتف.ويغدو هناك سؤال آخر مُلِح:ـ أين فضة؟.و"فضة" تنشطر بين الموت والحياة، فلها تاريخ مؤسس على الموت "فهي سمية لـ"فضة" الكبرى التي رحلت وأبقتها للتذكير بوخز ضمير ميت" فالبشرة السمراء تصبح وجوداً ميتاً في الحضور، فهي ميتة معنويا من خلال التميز العرقي، هي ذات السمرة القادمة من تزاوج غير متكافئ بين السادة والعبيد، فكان وجودها يمثل ثمرة خاسئة، توضع في الفم وتلفظ سريعاً، فـ"حمود" يلوكها، ويتذكر أنها كائن يجب توريته، و"فضة" تحمل تجنيسها الأنثوي مضافاً إليه إرث عبودية تسلل من بطون قذرة، وحين ترغب الراوية في الالتحام مع هذه الشخصية تظل تمسك بدمها الصافي بعيداً نائية به عن التلوث، وهي في اندماجها أو محاولتها الانصهار في "فضة" دائماً تنتصر لدمها الصافي حتى وهي توهمنا بأنها نسخة منها ربطتهما الحياة السرية في تبادل الذات واستراق اللحظات المحرمة من خلال الفيديو وتقاسم الحبيب، وتفاصيل المكان، والذكريات، وكذلك تبادل الذات، إلا أن هذه القواسم المشتركة لم تفلح في إحداث التطابق بين الراوية وبين "فضة"."فضة" تمثل الجريمة الاجتماعية التي كان يجب أن تموت مع التغييرات التي اجتثت كل بقعة من عالم الروائية، فثمة متغيرات كانت تجرف الساردة وتغير تربتها وتضاريس الروح، فالانتقال من الساكن إلى المتحرك يستوجب أدوات مغايرة لماضوية تلك الحياة الساكنة التي تقاسمتا فيها الراوية و"فضة" تفاصيل ذلك المخبّأ والمعلن."فضة نزف من الصعب إيقافه، استمرارية لحياة من العسير وضع نهاية لها، ماض بلا بداية، فقد اكتشفنا معاً ونحن نتجاوز مرحلة من العمر، أننا عائلة واحدة، لكن بلونين متغايرين ولهجتين مختلفتين، وطبقة اجتماعية بعيدة كل البعد عن الطبقة التي تنتمي لها الأخرى"(ص 68).والساردة الغائبة كاسم هي حاضرة من خلال لعنة "فضة" الاجتماعية، ولأن الانغماس في "فضة" يجلب العار للدم الصافي ظلت الساردة تنبذ "فضة" وتقيمها ككيان مستقل حينما يكون الحديث عنها مع الآخر، فهي المرأة التي هربت من الموت حاملة جثة كائن كان من الممكن أن يضاعف وجود العبودية المنبوذ، ويلتصق بـ"حمود" كعار سيواصل الجريان في الحضور المتغير، والحضور المتغير يتجلى في "علامة"، هذا المثقف الذي يوجد الوصفة السحرية للراوية في التخلص من الحرج الداخلي العميق لذاتها، هو صاحب الوصفة التي مكنت الروائية من المزج بين الخيالي والواقعي، من خلال بقع حكائية مربكة ومتداخلة، تخلق المتعة والاستفزاز في آن، والروائية تبوح في هذه الوصفة السحرية فهي تحيا الواقع بجو رومانسي (ص 280). و"فضة" ميتة حية في ذهن الساردة، فحياتها تتحول إلى تلبس وتقمص وتطابق تتحول إلى "فضة" عند الكاتبة إلى قلق الحضور والغياب، قلق الموت والحياة.1- أسألك هل أنت أنا؟.2- فكيف هربت عظامك ولحمك ودمك من أسر الكفن والقبر، وأبقيت روحك أسيرة فيّ.3- ثامر أكد لي أنها ليست في قبرك المعلوم، وجبر أوحى لي أن روحك سقاها في ماء مقروء عليه آية الكرسي وسورة يس. (يقدم عبده خال ثمانية أمثلة)وتلتبس العلاقة التباسا يؤدي إلى اقتران شخصية الساردة بـ"فضة" حتى لا تعود تميز ذاتها من ذات "فضة" وتعلن وقوفها على موتها "جثوت قرب القبور الأربعة" قبر القش... وقبري "قبر بركة وقبر السبتي الحار" (ص 271).وتصبح الذات الساردة روحاً هائمة خرجت من قبرها كما فعلت روح "يوسف"، فالفراشة الحائمة في غرفة "بركة" على رائحة بخورها تتعاور مع الظلمة في إخفاء أرواح هائمة قدمت مع تلك الفراشة لو رأتها عمتي "بركة" لهرولت خلفها ظناً أنها روح "يوسف" (ص 33).فـ"فضة" هي من نسل "يوسف"، هذه الكائنات التي تموت وتخرج أرواحها تحوم في البلدة تذكيراً بظلمها، وبما أن الليل فسحة واسعة لهذه الأرواح لكي تذكر الآخرين بحجم الخطيئة التي اقترفت بشأنهم، نجد "فضة" حاضرة كوجود موازٍ للروح الساردة، فـ"نورة" ككاتبة نجد عندها أن الموتى يعذبون الأحياء بحضورهم الليلي، ففي إحدى قصص مجموعتها تهوي هناك روح تخرج ليلياً تئن في البلد وتذكرهم بفداحة الخطأ الذي ارتكب بحقها. إن عدم توازن السرد واتساق الزمن وانفلات الأحداث وتمركزها في جوانب على شكل بقع ذات ألوان فاقعة وتدرج هذه الألوان للوصول إلى مراحل اللون الباهت يشي بداخل المحسوس بالواقعي، اختلاط عوالم الموتى بعوالم الأحياء، وبقاء "فضة" في فضاء النص منذ البدء إلى آخر لحظة هو تأكيد امتزاج هذين العالمين: امتزاج الأرواح والمصائر. من هنا يتم تأسيس التعاطف مع فوضوية الرواية وتأطير تلك البقع اللونية في إطار اللوحة الجمالية التي أرادت لها الفنانة أن تكون لوحة يكون فيها اللون هو الرابط الأساسي بين جزئيات وجماليات تشكل السرد وتمرده على المواضع المثبتة في عقلية المتلقي، حتى إن الضمائر لا تستقر في الجملة الواحدة. إن "نورة" في هذا العمل أشبه بمضخة أمامها جدار كبير كانت مهمتها الأولى ضخ هذه الأحداث من غير أن يعنيها أين تتمركز الألوان الأساسية والكتابة على الجدار لا تحتاج إلى علامات ترقيم. هذه الرواية أرادت أن تكتب جملة طويلة، ربما كان علينا أن نتابع هذه الجملة منذ أن اندلقت من فم "فضة": "كلهم متشابهون، كلهم يسمعون ولا يعون، كلهم رجال شرقيون، جراء ترضع من كلاب لتكون في عنفوانها كلاباً" (ص50)، هؤلاء الكلاب عكروا حياة الراوية أو "فضة" على حد سواء، هذا التعكير سواء كان خذلان حبيب أو تضييع بلد، ربما كان "جبر" في حاجة كبيرة لأن يقول لنا ما لم تقله "فضة"، وربما كنت محتاجاً لأبحث في لفائف الأقمشة المدسوسة في القبر عن الوجهة التي طرقتها "فضة" للخروج من قبرها وتعذيب الأحياء بوجهة البوصلة التي أوقفت مؤشرها عليه لتقول لنا: هنا عذاب الأنثى وهؤلاء هم الكلاب.
نورة الغامدي حين كتبت مجموعتها "تهواء" كانت تستدرج الحكاية الشعبية إلى عوالم متداخلة تحاول فيها أن تجد صوتاً أنثوياً يخترق السقف الذي يحد من ارتفاع قامة الأنثى.والسقف ليس استعارة لما احتوت عليه المجموعة، لكنه نص قصصي كتبته الكاتبة لتدخلنا في ذلك العالم الذي تتحول فيه الحياة إلى استدعاء للغائب، حيث يتحول الغياب إلى حضور طاغٍ يحل مكان المعاش وهي بهذه المجموعة أسست لنفس روائي من خلال تشابك العلاقات والعمق التاريخي لتلك الشخوص التي تتحرك في الفضاء القصصي وتشعر بالضيق لمحدودية البوح، ويبدو أن القاصة نورة الغامدي استشعرت بذلك الضيق الذي أطر بوحها في المساحات التي تحد من انطلاقات شخوصها وأفكارهم، ومن هذه الزاوية انطلقت روايتها التي صدرت حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، تحت عنوان "وجهة البوصلة" مستندة على التداعي الذهني الشبيه في بعض الأحيان بالهذيان الباحث عن مساحة لاستيعاب كم الحكايات الكثيفة والمتداخلة ما بين الآني والماضوي، حيث تتفجر الذاكرة بصور من الثقافة العربية المترسخة في الوجدان والتي انتقلت بثقافتها إلى الرجل البسيط ودخلت ضمن تركيبته النفسية والوجودية، فـ"جبر" الشخصية المنسية داخل تلك المزرعة يستحضر وجوده المنسي في تشبيه لا يخلو من استهجان بالذاكرة العربية التي تسقط تاريخها بالنسيان وتسقط قضاياها المصيرية بنفس الأداة.والحدث في مجمله يتنبأ بشمولية فكرة التطبيع مع إسرائيل من خلال حوارية بين "ثامر" الذي يمثل أنموذجاً للرجل المثقف وبين المزارع "جبر" الذي أشار إلى التطبيع بعفوية الرجل البسيط وتركها تتعمق في ذهنية "ثامر" المثقف وربما أرادت الروائية الإشارة إلى أن الأفكار الكبيرة، تأتي من الأفواه البسيطة والمقذوفة على هامش الحياة، هذه الأفكار يلتقطها المثقفون وينادون بها فيما بعد.والروائية بهذه الإشارة تقلب مفهوم تغلغل الأفكار من أعلى إلى الأسفل، وتجعل الفكرة تنبت من أسفل إلى الأعلى.ويشكل كل من الحب والعشق، بمفردتيهما ذات العمق المتباعد في تحدد المشاعر الإنسانية، مفردتين قد تكونان اختباراً في حياة العائلة لإحداث الذوبان فيمن يحب، مرددين بقول مضمر وصريح في أحيان "أنا أحترم اختياري" وبهذه الانتحارية الاختيارية كأنما هي دعوة لفتح باب الموت الذي ينتزعه بمجرد أن يتذوق لسعة الحب في أقوى حالاته وأسماها.وتتلون الأحداث بتلون التداعي الذهني الذي يجعل الاستطراد مزاجياً وفق الحالة النفسية والذهنية للسارد مما يحمل النص آفاقاً متنوعة ربما أدت إلى نوع من التشتت إذا قرئت وفق التسلسل الزمني المبني على وحدة الزمن وتصاعده بينما تجد لها أفقاً متناغماً حين تكون القراءة مستندة على معرفة أن السرد ينطلق من بعده الاستطرادي وفق سرعة المخيلة في تشجر الحدث وتناميه على هيئة لونية يجمعها إطار اللوحة وتغدو الألوان ذات دلالة نفسية تقود إلى عمق اللوحة وهذا ما فعلته نورة الغامدي حيث تدعو إلى ذوبان الألوان في بعضها دون اعتبار لفكرة الأسود والأبيض من مبدأ نبذ العنصرية وضدها من خلال "فضة" في اغتصاب زوجها الذي يهجر فراشها من أجل تطعيم العائلة بلون الكاكاو أو لون عجوة التمر اللامعة.وتحاول الروائية مزج هذا العالم المتداخل بتطعيم التاريخي بما هو أسطوري في تمازج يقترب من التسجيل لفترة ازدهار بيع الإماء والمتاجرة بهن عبر الجزيرة العربية، لتحل إحداهن كجارية عند رجل لا يعرف منها إلا كونها أمة مهمتها تنحصر بكلمة سيدي.هذه العوالم تهطل علينا من خلال بوح حميمي تتبادله الساردة مع الحبيب من خلال سماعة الهاتف وهو عبارة عن حوار يتم فيه سرد تلك الوقائع المتشابكة، وهذا التدفق الهاتفي يشير إلى أزمة الأنثى التي لا تعرف الرجل في حياتها إلا من خلال سماعة الهاتف وهذا يقود إلى خلق معضلة التواصل وخلق نوعية من الحوارات السادرة في الغياب والمنتهية بحالات متخيلة حيث يتحقق الحوار الفكري ويتغلب الهاجس الشهواني.و"علامة" هو الرجل الذي تحاوره الساردة بوصفه الرجل الحلم، والذي رأت فيه الكاتبة الأنموذج للرجل الذي تحلم به كل امرأة عربية للسمو بواقعها عبر حوار فكري يقدر عقليتها أكثر مما يقدر مواهب جسدها، وفي هذه الحوارية الطويلة الممزوجة بالحكايات والعوالم التي تقدر كينونتها وتبعث في نفسها أمل العثور على "علامة" في الواقع وليس من خلال أسلاك الهاتف حيث تكون الـ"علامة" مصطنعة والغايات مخبأة في الصدور، إلا أن هذه الشخصية تسقط كما سقطت في الواقع، فالبحث المحموم عنها يؤدي إلى معرفة نواقصها وارتطامها بالواقع وارتهانها لجذر ثقافتها الذكورية، ويبلغ الهذيان الذهني لهذه الشخصية المفقودة أن تسأل صاحبتها "فضة" الميتة: ـ أين علامة؟.ويتحول الموت إلى انشطار في الشخصية، هو موات بين الحياة الراكدة وبين البحث غير المجدي عن النموذج من خلال أسلاك الهاتف.ويغدو هناك سؤال آخر مُلِح:ـ أين فضة؟.و"فضة" تنشطر بين الموت والحياة، فلها تاريخ مؤسس على الموت "فهي سمية لـ"فضة" الكبرى التي رحلت وأبقتها للتذكير بوخز ضمير ميت" فالبشرة السمراء تصبح وجوداً ميتاً في الحضور، فهي ميتة معنويا من خلال التميز العرقي، هي ذات السمرة القادمة من تزاوج غير متكافئ بين السادة والعبيد، فكان وجودها يمثل ثمرة خاسئة، توضع في الفم وتلفظ سريعاً، فـ"حمود" يلوكها، ويتذكر أنها كائن يجب توريته، و"فضة" تحمل تجنيسها الأنثوي مضافاً إليه إرث عبودية تسلل من بطون قذرة، وحين ترغب الراوية في الالتحام مع هذه الشخصية تظل تمسك بدمها الصافي بعيداً نائية به عن التلوث، وهي في اندماجها أو محاولتها الانصهار في "فضة" دائماً تنتصر لدمها الصافي حتى وهي توهمنا بأنها نسخة منها ربطتهما الحياة السرية في تبادل الذات واستراق اللحظات المحرمة من خلال الفيديو وتقاسم الحبيب، وتفاصيل المكان، والذكريات، وكذلك تبادل الذات، إلا أن هذه القواسم المشتركة لم تفلح في إحداث التطابق بين الراوية وبين "فضة"."فضة" تمثل الجريمة الاجتماعية التي كان يجب أن تموت مع التغييرات التي اجتثت كل بقعة من عالم الروائية، فثمة متغيرات كانت تجرف الساردة وتغير تربتها وتضاريس الروح، فالانتقال من الساكن إلى المتحرك يستوجب أدوات مغايرة لماضوية تلك الحياة الساكنة التي تقاسمتا فيها الراوية و"فضة" تفاصيل ذلك المخبّأ والمعلن."فضة نزف من الصعب إيقافه، استمرارية لحياة من العسير وضع نهاية لها، ماض بلا بداية، فقد اكتشفنا معاً ونحن نتجاوز مرحلة من العمر، أننا عائلة واحدة، لكن بلونين متغايرين ولهجتين مختلفتين، وطبقة اجتماعية بعيدة كل البعد عن الطبقة التي تنتمي لها الأخرى"(ص 68).والساردة الغائبة كاسم هي حاضرة من خلال لعنة "فضة" الاجتماعية، ولأن الانغماس في "فضة" يجلب العار للدم الصافي ظلت الساردة تنبذ "فضة" وتقيمها ككيان مستقل حينما يكون الحديث عنها مع الآخر، فهي المرأة التي هربت من الموت حاملة جثة كائن كان من الممكن أن يضاعف وجود العبودية المنبوذ، ويلتصق بـ"حمود" كعار سيواصل الجريان في الحضور المتغير، والحضور المتغير يتجلى في "علامة"، هذا المثقف الذي يوجد الوصفة السحرية للراوية في التخلص من الحرج الداخلي العميق لذاتها، هو صاحب الوصفة التي مكنت الروائية من المزج بين الخيالي والواقعي، من خلال بقع حكائية مربكة ومتداخلة، تخلق المتعة والاستفزاز في آن، والروائية تبوح في هذه الوصفة السحرية فهي تحيا الواقع بجو رومانسي (ص 280). و"فضة" ميتة حية في ذهن الساردة، فحياتها تتحول إلى تلبس وتقمص وتطابق تتحول إلى "فضة" عند الكاتبة إلى قلق الحضور والغياب، قلق الموت والحياة.1- أسألك هل أنت أنا؟.2- فكيف هربت عظامك ولحمك ودمك من أسر الكفن والقبر، وأبقيت روحك أسيرة فيّ.3- ثامر أكد لي أنها ليست في قبرك المعلوم، وجبر أوحى لي أن روحك سقاها في ماء مقروء عليه آية الكرسي وسورة يس. (يقدم عبده خال ثمانية أمثلة)وتلتبس العلاقة التباسا يؤدي إلى اقتران شخصية الساردة بـ"فضة" حتى لا تعود تميز ذاتها من ذات "فضة" وتعلن وقوفها على موتها "جثوت قرب القبور الأربعة" قبر القش... وقبري "قبر بركة وقبر السبتي الحار" (ص 271).وتصبح الذات الساردة روحاً هائمة خرجت من قبرها كما فعلت روح "يوسف"، فالفراشة الحائمة في غرفة "بركة" على رائحة بخورها تتعاور مع الظلمة في إخفاء أرواح هائمة قدمت مع تلك الفراشة لو رأتها عمتي "بركة" لهرولت خلفها ظناً أنها روح "يوسف" (ص 33).فـ"فضة" هي من نسل "يوسف"، هذه الكائنات التي تموت وتخرج أرواحها تحوم في البلدة تذكيراً بظلمها، وبما أن الليل فسحة واسعة لهذه الأرواح لكي تذكر الآخرين بحجم الخطيئة التي اقترفت بشأنهم، نجد "فضة" حاضرة كوجود موازٍ للروح الساردة، فـ"نورة" ككاتبة نجد عندها أن الموتى يعذبون الأحياء بحضورهم الليلي، ففي إحدى قصص مجموعتها تهوي هناك روح تخرج ليلياً تئن في البلد وتذكرهم بفداحة الخطأ الذي ارتكب بحقها. إن عدم توازن السرد واتساق الزمن وانفلات الأحداث وتمركزها في جوانب على شكل بقع ذات ألوان فاقعة وتدرج هذه الألوان للوصول إلى مراحل اللون الباهت يشي بداخل المحسوس بالواقعي، اختلاط عوالم الموتى بعوالم الأحياء، وبقاء "فضة" في فضاء النص منذ البدء إلى آخر لحظة هو تأكيد امتزاج هذين العالمين: امتزاج الأرواح والمصائر. من هنا يتم تأسيس التعاطف مع فوضوية الرواية وتأطير تلك البقع اللونية في إطار اللوحة الجمالية التي أرادت لها الفنانة أن تكون لوحة يكون فيها اللون هو الرابط الأساسي بين جزئيات وجماليات تشكل السرد وتمرده على المواضع المثبتة في عقلية المتلقي، حتى إن الضمائر لا تستقر في الجملة الواحدة. إن "نورة" في هذا العمل أشبه بمضخة أمامها جدار كبير كانت مهمتها الأولى ضخ هذه الأحداث من غير أن يعنيها أين تتمركز الألوان الأساسية والكتابة على الجدار لا تحتاج إلى علامات ترقيم. هذه الرواية أرادت أن تكتب جملة طويلة، ربما كان علينا أن نتابع هذه الجملة منذ أن اندلقت من فم "فضة": "كلهم متشابهون، كلهم يسمعون ولا يعون، كلهم رجال شرقيون، جراء ترضع من كلاب لتكون في عنفوانها كلاباً" (ص50)، هؤلاء الكلاب عكروا حياة الراوية أو "فضة" على حد سواء، هذا التعكير سواء كان خذلان حبيب أو تضييع بلد، ربما كان "جبر" في حاجة كبيرة لأن يقول لنا ما لم تقله "فضة"، وربما كنت محتاجاً لأبحث في لفائف الأقمشة المدسوسة في القبر عن الوجهة التي طرقتها "فضة" للخروج من قبرها وتعذيب الأحياء بوجهة البوصلة التي أوقفت مؤشرها عليه لتقول لنا: هنا عذاب الأنثى وهؤلاء هم الكلاب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق