الخميس، 29 أبريل 2010

المعنى حيــاة الروح

أعرف .. له طبيعة غربية ولغة خاصة جداً مصدرها صوته الذي يتحدث دائماً بالنيابة عنه وحشرجة يبعثرها لسانه الذي يحاول التسيد، وفرض سلطته التي لا تقوى على دحض اللغة الأخرى...لم يكن مجنوناً! ولم يكن عاقلاً! ولم استطع أن أحدد بالضبط الى أي الأنماط البشرية ينتمي! فأنا لا أقرأ عينيه .. ولا تعابير وجهه وحركات يديه وإنما أحاول تفحصه من خلال صوته الذي يأتي كل شهر أو شهرين مهلهلاً منبوذاً خارج ذاته، ولا أخفي أمري على نفسي، فأنا لا اختلف عنه كثيراً! إلا أنني أجيد التخفي خلف الصدق الفاضح أحياناً ... بينهما هو يتمحور داخل صدفته الشفافة معتقداً أن أحداً يراه ...قال في إحدى مهاتفاته متسائلاً:* ما السعادة يا صديقتي ... ثم استرسل بعد تعثر، وكأنما اعتبر أن مثل ذلك السؤال سذاجة مفرطة ومخلة ... ألا ترين أنه في ظاهره سؤال تافهة كان يوجهه لنا مدرسو المرحلة الثانوية .. تنحنح وأكمل: ولكن ألا يوحي لك بالصعوبة .. والحذر والاستمالة.؟وجدتني أتحرك من مقعد الى مقعد واحمل الهاتف مغيرة المكان، وأخذتني العزة بالإثم، فهو قد سألني وعلىَّ أن أجيب، وعلىَّ أن ادفع إجابتي بمنطق حكيم ولغة منتقاة، ضحكت ... حاولت التكلم فعجزت، وتذكرت احد الأصدقاء الطيبين حين قال في نقاش مماثل: إن هذا أحقر سؤال في العالم! وتابع أحدهم فقال .. السعادة هي أن يبحث العجوز عن نظارته فيجدها فوق أرنبة أنفه ..!لم استطع أن اذكر هذا للاذن المنتظرة على الهاتف ... لأنني بدأت أتأمل نفسي من الخارج .. لمحت يدي الأخرى .. وطرف ثوبي .. وحقيبتي .. ووجدتني اتجه نحو المرآة .. ورأيت بوادر كذب كبير على وجهي! وكنت على وشك أن أبدأ في سرد كلمات وعظيمة، وأنا على ثقة بأن صديقي مهذب جداً، ولن يعارض كلمة واحدة، ولن يسمح لصوته المتحدث بالنيابة عنه دائماً أن يفضحه .. خليط من المعقول واللا معقول يتعاور ذهني وكأن شيئاً غريباً قد هبط في داخلي .. وبدأ يدق بعنف جمجمتي، ورأيت لساناً أزرق يمتد منها الى حيث أذن الآخر قلت له:* السعادة أن تتخلص من حلمك..!* كيف؟سمعت أنفاسه تتحرك صوب أشياء مبهمة ..!* لا ادري بالضبط كيف؟ ولكن هناك شيء يلح في داخلي أتمنى التخلص منه .. تخلصاً ليس أبدياً الى غير رجعة! ولكن ممارسته واكتشاف سؤال لم يدرج بعد في ذاكرتي!كيف وجدت التجربة؟ سؤال يأتي وأنا في قمة العقل وخلف مكتب عملي أو في مقعد العربة، وعند النوم .. يتخذ السؤال صيغة أخرى .. أليس ما حدث تهريج وسوط يحرضك على التكرار وإعادة نسخ الحلم؟فإذا ما أنزل الفجر أشرعته .. وفتحت عيني يأخذ السؤال منحى جديداً .. ها قد ولجت الحلم وأحكمت قبضتك حوله في الحديد.. أو بالأحرى ما البدائل؟لا اعتقد أن مثل تلك الأفكار المبهمة – التي لم تكتمل بعد لعدم خوضها كتجربة ملموسة، استطيع إيصالها الى صديقي دفعة واحدة.. لأنه ـ وحسب ـ ما أعرف ـ له طبيعته المألوفة. ولن يغرق نفسه في البحث في ما وراء الذاكرة.. سيظل يحوم حول الواضح وما تلمسه اليد .. وسيظل خلف محميته التليدة في فصل روح الأنثى عن روح الذكر والمثالية المفترضة التي يندس خلفها، ولكن لا أخفي صاحبي الأمر ..! فهو يختبئ خلف الكلام الدراسي متناسياً أن هناك خطيئة وأن هناك غفراناً، أما أنا فإنني اظهر مع الحقيقة واقف الى جوارها، مع أن هذا مُخل ولا يتواءم مع كوني أنثى حسب المترسخ في ذهنه....!صديقي لا يزال ينتظر الإجابة التامة، وأنا لا زلت أخوض في كلام لا مسؤول...!قطع الصمت بزفرة طويلة موضحاً:* (أنا عندي حنين ما بعرف لا مين)غيرت وضع سماعة الهاتف وفي نفسي يقين بأن هذا رجل محبط ... تنقصه المغامرة وحب الذات.. تماماً مثل أكثر صديقاتي فهن يرددن العبارة حتى وهن يمضغن الخبز بشهية مفتوحة..* كيف يا صديقي.. لا تعرف لمن حنينك، ولا ماذا تريد.؟لا ادري.. أنت حر.. وكنت في تلك اللحظة صادقة الى درجة أنني رأيت ملامح وجهي في المرآة المقابلة مختلفة تماماً وان يدي اكبر من المعتاد.. وصوتي حاد.. وأنا أمر بخاطر لذيذ كلذة صوت حبيبي...قلت لصديقي:هل تتخيل؟ لقد وجدت "خاتم سليمان" هذا اليوم تحت عقب الباب..! ضحك صاحبي بتذمر... لم يقرفني تذمره.. (وإنما سمعت بدهشة..) إنه خاتم أسود صغير جداً وقد حشرته في أصبعي، ووجدتني على ظهر عفريت عظيم أصلع.. حافي القدمين.. ضعيف البصر .. كان يتخبط في المكان وأنا أتسلق ظهره في رضا تام .. وصوته يجلجل في الجنبات..* اطلبي وتمنّيْ .. بشرط أن تكوني صادقة، وإني والله أخشى عليك مما سترين من عجائب الدنيا وفنون الكون، وإن لم تصدقي فستثبت عليك صفة الكاذبة الى يوم يبعثون..! ولن ترى بريق البهجة في المكان الذي يقطنه، لن تكون مدينته مدينة الخلد.. ولن ترى صخورها مرمرية وأرضها عاجاً.. ولن يرفع مقعديكما إلي فسح الفضاء ... سيهجرك الرضا ... وستتحول الأشياء والأمكنة وحتى ملمسه وقبلته إلى شيء بليد .. ستفقدين اللذة والخفق المجنون .. وستــ ......! ولن ... وستكون ..! لم أكم أستمع إليه بشكل جيد بل كنت مبهورة بالرحلة، وفي ذات الوقت مستقرة من الداخل إلى حد الذوبان، واثقة بأن قلبي في قبضتي، وعقلي تحت قدمي.. أجلسني على شاطئ البحر بعد أن قطع بي جبال السراة وصحراء الربع الخالي.. هبطنا أودية واحترقنا مغارات، وجاوزنا أعشاش الصقور واصطدمنا بالوعول النائمة في أحضان الصخور...* قلت له..* عفريتي الطيب! قف على شاطئ البحر وإبن لي صدفة فوقه وفي لمح البصر أكمل عمارة الحجرة فوق البحر وأرسل الضوء الخافت المدلى من خيوط الحرير الذهبية .. برز وجهه الكئيب وأشار أن: أقبلي.. ووجدتني أصعد الدرجات الخفية إلى حيث موقع الحجرة المسقوفة بالفل والموشاة بالورد الأحمر...لم يكن هناك موضع لقدمي، كانت الحجرة المريعة كلها سرير بلا قوائم يعلوه غطاء بلون السكر، معقود من الأعلى بخيط قمري مرسل من السماء.. تنقطع عين الرائي إليه عند نقطة ليشت ذات مدىً بعيد، فتبقى نهايته مجهولة .. ويداهمني شعور خفي عندما أدوس بقدمي على الماء، الذي ليس بماء، وعندما تحيط بي عشرون فراشة ـــ ترقص على نغمات تصدر من مقابض النوافذ العلوية، قيما يجثو أمامي مائة وصيفة يزين جلستهن قوس قزح الذي يتوج الحيطان الأربعة، كلهن يهيئن المكان بروائح تنثال من معاطفهن الشفافة وترشح بها جباههن الناصعة .. تنفتح لي طاقة دائرية، وأشرف على المدينة البحرية من علو قريب فأراها سادرة في الغواية والجمال والتحفظ، ومن طاقة أخرى أرى قريتي تقبع في الظلمة وتصغي لهسهسة الحلم ... وجاءني العفريت مفترشاً الشمسّ جلجل صوته..* قد وعدت والآن حان تنفيذ الوعد .. ولا تنسي الشرط، وعليك الآن أن تشيري إلى أحدهم ليشاركك هذا المكان ساعة من زمن قبل أن يذبل الورد.. وتذوب وريقات الفل وتكل أقدام الفراشات، ودون أن يعطيني فرصة للكلام وجدتني أمتطي ظهره هائماً بي فوق المدينة البحرية يفتح لي الأبواب عنوة.. والنوافذ خلسة، وما قاومه منه جزّة من منتصف السقف.. رأينا رجالاً ونساءً وأشباحاً وأشباه حيوانات غافية على هامش الوقت..تجولنا في الدهليز الموشاة بالفضة واقتحمنا الصالات الفارهة والغرف المستوردة، ورأيت خلقاً وأجناساً.. تجولت في صدورهم. ورمحت في قلوبهم، وتحاورت مع ضمائرهم... فأومأت للعفريت ... أن .. لا .. لا .. لا ..!خرج بي إلى حيث يرقد الراحلون .. اصطفوا أمامي .. تحاورنا وتجادلنا، وأذهلني خلقهم البديع وأنفاسهم التي كشف لي احدهم بأن منها روائح أشجار أهل الأرض وزهوره، وأشرت للعفريت... أن .. لا ..!طار أعلى فوق المدينة .. فألفيتني ألتفت كأنما هناك شيء أغفلته.. دخلنا عوالم وبلاداً خلف البحار، وسكنا قصور الهند وإيوانات الشاه الحمراء، وتجولنا في باحات القصر الأبيض، وغامرت بمغازلة سكان الغابات المخيفة.. واقتحمت صالات هوليود .. وقصور الفُرسان بباريس، وعرجت على أرض الفراعنة، وملوك الإغريق، وقام الراقدون في كل أرض نطؤها واختلط التاريخ بالتاريخ والرجال بالرجال.. والنساء بالأشباح.. وفاضت الأرض بالأنفاس والأقدام، والوجوه الخارقة، وأنزلني آمراً إياي بأن أنتقب ... وصفق بيديه...* هذا العالم بين يديك ...!زلزلني وجه أمير من طروادة، وعقل أبيض كالشمس يتكئ على جبل حنين.. أغراني بالتجول في القصر الأبيض بجسده الفارع. وخفت قدماي نحو أحد الراقدين الذي استفاق من غفوته الأبدية، وناداني وهو يتقلد زي الفرسان لأصعد معه ظهر الخيل الأحمر لكني أحجمت .. عندما لاح لي وجه العفريت المظلم.. وركضت إلى ظهره وأومأت .. أن .. لا ...وعدنا إلى الشاطئ، وقبل أن نهبط همزته ووجهته إلى بقعة بيوتها متناثرة لها أضواء أقل من المعتاد، وأشرت إلى بقعة ضوء ضاربة إلى الصفرة...* إنه هناك....* من اخترتِ....؟* نعم...اخترقنا السقف العالي معاً، وأشرت إلى كائن عرفته في زهوة العمر...!أصلع .. حافي القدمين ... شبه أعمى ..ضحك العفريت ...* هو يشبهني ..* "..............."* دعيني أضع له عدسات للنظر وحذاءاً وأُسبغ رأسه العاري بالشعر الجميل...* لك أن تصنع له حذاءاً ... وعدسة .. أما الشعر .. فلا ... لا .. لانك ستلوث دمه الذي هو دمي..!* تغير صوت صديقي ونعتني بما لا أحب ذكره ... وقبل أن يغلق سماعة الهاتف قلت له:-* هذه هي السعادة بالنسبة لي في هذه اللحظة التي فاجأتني فيها بسؤالك العجيب.!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق