في مرآة المحرّم الثقافي .. الرواية تمشط شعرها
يبدو أن الرواية النسوية السعودية في معظمها لا زالت تعيش عالم ما قبل الرواية، فهي متولدة أصلا في ظل نظام رمزي قاهر، وضمن حقل ثقافي محاصر بسياج من التسلط النفسي والفكري، إذ لا تعكس صيرورة وزمن الحداثة الإجتماعية، وهو ما يفسر الخواء الذي يتلبسها، حيث لا تحضر تلك السادية المتوخاة كفعل تعرية، ولا يتأنث السرد بما يكفي لاستعراض اغواءاته اللغوية والشعورية أمام ذكورية القارئ، والتي تحيل تعاسة الراوية وتناقضاتها وهواجسها إلى شكل من أشكال القدسية.
ويبدو أنها أعجز عن التماس بحقيقة الفعل الروائي القائمة على استدماج الفكرة وكافة الوسائل العقلية وغير العقلية القصصية والتأملية القادرة على اضاءة كينونة الانسان، كما أنها على درجة من الوقار لتنأى عن تخوم التصعيد الحسي، حيث التمادي في انتهاك الذات وتدنيسها، بما يتيح للمسرود له، فرصة التمري عموديا في ذاته، فالقسوة السافرة مع الذات ضرورة لتفصيحها، ولتحريك ركود النص الذي قيل بعضه، بلسان كائن يمارس طقسية مزدوجة من الصمت واحترازات الكلام المحسوب في آن، بما يعني تمكيث المرأة كرمز وعلامة داخل المحرّم الثقافي، والتأكيد على إخفائها بقصدية - روائية - عن عين الذكر المتلصصة، بحيث تظل متخيلة رمزيا، ومؤولة ذهنيا، أو مستبدلة باستعارات موضوعية كبدائل هروبية للانحياز عن المستور الثقافي بكل تداعياته الاجتماعية والنفسية، الأمر الذي ينأى بها عن طاقة الفعل الروائي ( الهدمي /البنائي ) المحايث لفعل الحداثة الاجتماعية.
ويبدو أن التلازم التاريخي للمرأة بالرواية مقولة بحاجة إلى شيء من التأكيد هنا، فالرواية غير ممكنة التحقق في أفق لا روائي. ولا رواية أصلا من دون فضاء ديمقراطي، وكل نص روائي لا ينفصل بحال عن بنيته الثقافية الأشمل، بما تؤمّنه تلك البنية للفعل الروائي من وسائل وهوامش لكي يتخلص من معوقاته، وعلى ذلك لم تتولد الرواية النسوية السعودية في أفق ثقافي بقدر ما انبثقت في أرضية اجتماعية، بمعنى انها لم تكن في أغلب الأحيان سوى عنوان جديد لحالة اختلال اجتماعية مزمنة تجدد لبوسها في صيغة أدبية أقرب الى الخطاب، كما تجسد ذلك مثلا عائشة زاهر بروايتها " بسمة في بحيرات الدموع " وهدى الرشيد بروايتها " غدا سيكون الخميس " حيث يتصعد الموضوع وتتراجع اللمسة الفنية، والأهم أن الفردانية كلازمة روائية لصياغة التاريخ الاجتماعي والتشكل داخل مستوجباتها تظل مغيبة، أو ربما غير مستوعبة فنيا وموضوعيا.
وهذا يعني أن الدال الرمزي وتوأمه الخيالي يتنازلان في الغالب لدال الواقع، فيما يفترض الفعل الروائي النفي المتكرر لذلك الواقع والتمرد على محاولات اعادة انتاجه، بحيث تكون الفردية فرصة لصياغة التاريخ أو توصيف الشكل الأحدث للمسألة الاجتماعية، بما هي المجاز الحداثي، كما تؤكد كل نظريات نشأة الرواية، فطريقها هو التاريخ الموازي للأزمنة الحديثة، وعليه فان تعاطي الرواية يعني تحقيق ذلك التماهي بحداثة الحراك الاجتماعي، انطلاقا من التعايش مع مستوى ثقافي أحدث، تكون فيه الرواية أحدى تلك التمثلات المشاهدة على تعددية الأصوات وتنوع الأداءات، فالسرد النسائي يفترض أن يكون مغامرة لبقاء وإبقاء الذات حية، أو جعلها أكثر تماسكا ازاء العالم.
ومنذ روايتها " بريق عينيك " لسميرة خاشقجي ( سميرة بنت الجزيرة ) مرت أربعة عقود لم تحقق الرواية النسوية السعودية - كما أو كيفا - ذلك النصاب الأدبي المفترض، فيما يبدو تخلفا سافرا عن محايثة فعل التنمية المتسارع بكل تشظياته، رغم أن الكتابة الروائية هي الأسهل بالنسبة للمرأة مقارنة بمتطلبات الشعر، وهو الأمر الذي يستدعي التماس ببنى الصمت الأنثوي لسماع ما لا تريد أو لا تقدر على قوله روايات أمل شطا في " آدم يا سيدي ". وهند باغفار في " البراءة المفقودة ". وسلوى دمنهوري في " اللعنة ". وأمل فاران في " روحها الموشومة به ".كما يحتم ذلك الحذر مقاربة دلالات الغياب، فقد يمكن الإصغاء إلى قصص لم ترو، والوقوف على استثنائية ذلك النمط الروائي، أو ما يمكن أعتباره حالة تمويهية للتعبير غير المباشر، باعتباره منهجية تملص ومراوغة أسلوبية تحث على تعويض ما لا يقال.
إن بنى الصمت تلك، كما تبدو بصيغة فراغات وفجوات، أو نصف صوت، وبالتالي نصف نص، هي من ناحية الوعي أشبه بغمامات القمع، على اعتبار أن النصف الثاني لم يتلفظ به، حين يعجز وعي الذات الأنثوية عن التصريح، أو يفشل في التعبير عن نفسه، فالصمت كمجاز، وكوجود نصي، إشارة لكل الظروف المادية المعوّقة للإبداع الإنساني، كالافتقار الى الوقت والمال والدعم العائلي والاجتماعي، وتقاليد المرء الخاصة، وثقته بحقه في اللغة العامة، بالاضافة الى الخطاب المتيسر الذي يوفر له فرصة أن يقول الحقيقة. ومن ناحية ثانية يعني غياب النص، حالة من التأكيد على الاضطهاد، والتناقض، والموضع الذي تقيم فيه تلك الايدلوجيا المتبائسة أو المقهورة، التي تخشى أن تصل بالرواية إلى درجة تحيل بها جسدها الى نص.
لم تنكتب الذات الأنثوية كما ينبغي، فهي تقيم في الهوامش. أو كما وصفهن الدكتور حسن الهويمل في مدخله لدراسة الإبداع القصصي والروائي والمسرحي في المملكة بأنهن " متذبذبات بين الموهبة والإقتدار، والفعل والافتعال والتكلف والعفوية، والتجريب المتزن والاندفاع المنفعل، وقضاياهن تدور حول المرأة: تعليماً، عملاً، علاقات زوجية، عنوسة، طلاق، تعدد، وفاء وخيانة. وهن أقرب إلى الوعظية والإرشادية والاحتشام وإن ند بعضهن " بما يعني انتفاء القدرة أو الرغبة ربما على الخلق وتكريس فكرة العجز الفكري والابداعي، والارتكاس الى موضوعات تؤكد على جنسانية الروائيات في ازدواجية الإنتماء واللا إنتماء، فيما يبدو الرضى بالتشكل ككائن يصغي بصبر وانقهار إلى ما يؤسسه الرجل من قيم التفكير والسلوك وهامش الحضور الحياتي والابداعي، وبالتالي الارتهان الى طقسية الصمت والكلام المنقوص.
وللتمثيل على رحلة الأنا الروائية النسوية السعودية في تشكلها عبر اللغة لمطابقة المتخيل الروائي ببنى النظام الرمزي، يمكن القول مثلا أن ليس ثمة مكبر صوت في رأس " فضة " بطلة رواية " وجهة البوصلة " لنورة الغامدي، ليعلمنا الكثير عن أنفسنا، أو حتى الإفضاء بما لا نعرفه عن المرأة، بمونولوج داخلي مرآوي يتفنن في استعراض أخاييل الذات وخباياها المتعارضة، رغم جرأة الطرح، وحضور الراوية المكثف لدرجة امتزاج صوتها بصوت البطلة، فالرواية استدعت شخصيات بلا وظيفة، وتشاغلت بقضايا فلسطين والعراق دون تزمينها كخلفية لحداثة اجتماعية مستوجبة.
وربما أرادت نورة الغامدي بتلك الهوامش تشتيت " الأنا " والتقليل من غلوائها، أو عدم تقويتها، لئلا يزداد اغتراب الروائية عبر بطلتها، بما يعني نأي الرواية النسوية السعودية عن مهمة اكتشاف طاقة الرواية كأداة تدمير للقيم الذكورية المكرّسة، أو ربما لم تحسن استخدامها، على اعتبار أن القص هو الحيلة الشهرزادية لتفتيت وهم السلطة الذكورية، فالكتابة هي المكان الذي ينشأ فيه الفكر التدميري، بما هي قرين اللغة كمصدر جنون ووعي الكائن الأنثوي ومراوحاته لتأنيث الذاكرة واللغة، بما يعني ارتباك المراحل التي يمكن أن تقطعها تلك " الأنا " الأنثوية في رحلتها للوصول الى هوية متخيلة، تعيد تعريف نفسها من خلالها، وبها يمكن فيما بعد مجادلة الآخر بها داخل النظام الرمزي.
وبما أن الرواية وثيقة الصلة بالحياة الواقعية فان قيمها تعكس بالضرورة واقعية قيم الحياة تلك، للإبقاء على حيوية السرد، أي ضرورة أن تقدم الرواية لنا الحياة، لأنها هي التي تعطينا الرواية، لكن النص الروائي الأنثوي يمارس غيابه بقصدية لها مبرراتها الفنية والموضوعية، فرجاء عالم مثلا الأبرز بين الروائيات - انتاجا وحرفية - تنزاح بوعي مبيت أو مراودات حداثية وما بعد حداثية عن تلك المكامن الإفتراضية، وتراهن بمتوالياتها الروائية ( خاتم - مسرى يا رقيب - حبي - موقد الطير ) على الميثي وتذويت التاريخ، بلغة اختراقية للإمتثالي من السرد العربي، تقوم على قطيعة صريحة مع القارئ، بالنظر الى كونها تراهن بتعاليات " الكتابة " مقابل القص أو الحكي وان استدمجتها بشكل مفتعل أحيانا، فهي تقوم على استراتيجية تتجاوز المتلقي إلى ما يشبه التخاطب مع التاريخ، أو ما يمكن اعتباره حالة من ابتناء مجد ابداعي بفرادة أسلوبية.
وعند مها محمد الفيصل تتأسلم الرواية، أو تنحاز بها إلى رومنطيقية صوفية بمعنى أدق، حيث ينحى السرد في روايتيها " توبة وسيليى " وأيضا " سفينة وأميرة الظلال " إلى مزيج من التأسطر والتصوف فيما يشبه الإسقاط الكولاجي لمخزون قرائي من الموروث، مستدعى بآلية استظهارية وليس تحت وطأة الاستذكار، في صيغة ترميزية أقرب إلى عجائيبية الحكي وتلغيزه بشكل تركيبي، بما يعني اغتراب السرد أوانتفاء حالة الانفعال باللحظة والمكان، فالذات الروائية هنا تنبني على التجانس مع المقروء وليس على ادراك " الأنا " كمعبر للتماس والتغاير مع الآخر.
أما نجيبة السيد فتكتفي بنصف صوت تتقاسم نصفه الآخر مع رجل ( منصور السيف ) وذلك في رواياتها ( عندما يحلم الراعي - دموع مسلحة - تحت الجذوع ) الأمر الذي يخفض في سرديتها صفاء النبرة الأنثوية، خصوصا في اتكائها على تأصيل جملة من رومانسية الأبعاد الإمتثالية داخل الفعل الروائي، والإغراق في الموضوعية على حساب النزعة الذاتية أو الفردانية، بما يؤكد على استتراتيجية سردية تتجاوب بشكل طوعي مع منظومة القيم المكّرسة، حيث تتضاءل نبرة التحدي، وبما يعني أن تطفو الموضوعات وفق آلية انفصال واتصال للذات الروائية عن موضوعها، حيث المبالغة في الرهان على قارئ ضمني تتفنن في استرضائه وإخضاع السرد لمتطلباته، بما هو ضمير الرواية الأخلاقي، عندما يتمثل كمروي ومسرود له في آن.
ذلك المنحى التعقيمي بمعناه وشكله التقريري هو ما تؤديه صفية عنبر سرديا وتتوغل فيه بسلسلتها الروائية ( عفوا آدم - وهج بين رماد السنين - أوراق مبعثرة من زوبعة العمر ) لتجسيد دراما التحولات الإجتماعية بمعناها الأفقي وبشيء من التوشية العاطفية، أي ضمن ثنائية الرجل/المرأة، ومحاكمة المفاهيم الذكورية المنبسطة خارج المركبات النوعية للمكون التاريخي، وداخل الأعراف والممارسات والتقاليد، وكأن الكتابة النسوية منذورة للرد بنبرة وجدانية على حالة التغالق والانفتاح التي يبديها الوعي الذكوري التنميطي للمرأة على الدوام، وعليه تبدو هذه الرواية وكأنها مهمة تثقيفية أنثوية صرفة بهذا الشأن، لإفهام الرجل مقومات الكائن الأنثوي، ولتكف النساء عن لعب دور المرايا المضخّمة لدور وحجم الرجل، اتكاء على فكرة ميل المرأة الطبيعي إلى الفضيلة وامكانية ممارستها تأثيرا اخلاقيا ايجابيا على الرجال، بما هي قرينة الحق والخير والجمال،كما تميل الكتابات ذات النزعة النسوية.
ولكن ليلى الجهني تمارس بعض الإستثناء الروائي، حيث تطرق في روايتها " الفردوس اليباب " موضوع الحب من منظور وخبرات التجربة الحسية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى كتابة صادمة بالنظر الى حتمية أن يكون الفعل السردي مثيرا وبالتالي متخففا من صرامة الأعراف والأخلاقية، مع التأكيد على أن النزعة الوعظية يمكن أن تقتل الرومانسي داخل ذلك النمط من الفعل الروائي، وهذا ما حاولته في مزدوجة الخفاء والتجلي، بمعادلة سردية تقوم على الصمت والإفضاء، والتي يصعب استيعابها أو الدفاع عنها فنيا بسهولة، عند تحليل مضامين القوة التي تتأسس بحس استبطاني لإبراز الإنسان، يدخل بمركباته النوعية في علاقة من التدافع لخلع قوة أخرى أو إقالتها من خلال طاقة التمثل السردي كمعادل لقوة الحياة، أو هذا ما تبين عنه الرواية النسوية السعودية عند تحليل شكل التمثل في انتاج اللغة كمكون بنيوي يتناغم بالضرورة مع قدرة الروائية خارجه.
هكذا يبدو التنوع الأدائي، والتعدد الموضوعاتي في ذلك الشتات الروائي، فهو ليس دلالة حيوية، بقدر ما يتبدى كعنوان عريض للهروب من استحقاقات الذات ومستوجبات الكتابة بما هي شكل للحضور والهوية، فهي لا تثاقف لحظتها، بل تنفصل أحيانا حتى عن موضوعها، حيث تتشاغل بذاتها الروائية فتعجز عن ادراك الذوات المغايرة لها، ربما لأن القلم لا زال هو المعادل لكل ما هو ذكوري، فعندما حصلت المرأة على التعليم، وامتلكت نبرتها الخاصة لم تأخذ حق التجربة كأس للكتابة الروائية، وبالتالي بتن عاجزات عن الكتابة بحرية، وهو ما يبدو بشكل جلي في ذلك النمط السردي بكل ما يعتوره من عوز في التجربة الحياتية والخبرات الثقافية.
وقد يتعلق الأمر بارتهان الرواية النسائية السعودية إلى معايير نسوية محضة، تبالغ في الإتكاء على أيدلوجيا الاضطهاد وتضخيم سلطة الخوف من الذكوري بما يحتمه الخطاب الإجتماعي من قوامع وما يستتبع ذلك من شرعنة مؤسساتية لمصادرة الصوت النسوي، بحيث تقصي النساء عن الكتابة الفاعلة، حيث يتحركن بكتاباتهن في عالم الرجال كقدر، فما زلن يفكرن من خلال أمهاتهن، وذلك ما يبدو واضحا وممكثا عند قماشة العليان بمتوالياتها الروائية والقصصية ( أنثى العنكبوت - عيون على السماء - بيت من زجاج - بكاء تحت المطر ) حيث الإلتصاق بالسببية الإجتماعية والتاريخية والثقافية، والتعبير عنها بسردية شكلانية وليس ضمن علاقات لغوية تعكس استبطانات الصيرورة الخفية لمفاعيل السلطة، أو مفارقاتها الخفية، فهي غير متأتية ضمن الصيرورة الروائية المولّدة للصوت الواعي بمعنى القوة كفعل محايث للحداثة الإجتماعية.
إذا، الروائية السعودية خاضعة بشكل واضح لتأثير التقاليد. وقد يصح التحليل القائل بأن المرأة تخاطب جمهورا من النساء، لكنها تعرف تماما كما هو حالها دائما أن الرجال يسترقون السمع، وبالتالي تتورط في مأزق اللغة والشكل فنيا، ومسألة اعادة الاعتبار البيولوجي والثقافي للمرأة في عالم تتقاسمه مع رجال على درجة من العناد الحقوقي، ولذلك لا يبدو أن إقصاء الرجل من الجمهور مسألة ممكنة استراتيجيا، وهو ما يفسر نبرة التباؤس وانخفاض روح التحدي، ليس بالمعنى الحقوقي ولكن بمعنى الإعتقاد العاطفي وتمثله روائيا ، بحيث لا تنأسر الى النزعة الرومانتيكية الساذجة، كما حللتها الكتابات النسوية، حيث عن صلة الكاتبة بالشخصية الرومانتيكية المغتربة، فعندما تختفي نبرة الغضب فهذا يعني أن الروائية محتواة أصلا بالقيم الثقافية الذكورية السائدة، إذ غالبا ما تؤدي وظيفة أو صورة انقسام ذاتها، أي الرغبة في قبول بنى المجتمع البطرياركي ورفضها في الوقت ذاته، ولكن دون إبداء أي مقاومة مقنعة من خلال الفعل الروائي.
وربما يتعلق الأمر بعطالة المخيلة الأنثوية كطريقة لادراك العالم، لأن الابداع يتطلب شروطا معينة ظلت غائبة بالنسبة للروائية السعودية، فالظواهر الفنية المتماثلة والمتكررة وفي مقدمتها تمركز السرد حول الإنوثة التي يصار الى تأكيدها والإحتفاء بها من خلال الجسد وهو ما يقصي المرأة عن تعاليات النوع الكتابي الى محدودية الخطاب، ربما لأن المرأة عندما تكتب الرواية بآلية مغايرة تكون الذات هي مركزها، فاذا ما تجاوزت رواية شيئا من ذلك الحاجز الفني بدأ البحث عن الرجل الذي يقف خلف الروائية بشيء من التشكيك.
وقد يتعلق الأمر بمقروئية مجحفة، تساوي عدم قراءتها أصلا، حيث الاستخفاف بمنتج روائي غير ناضج، حسب التصورات التنميطية، فالرواية النسائية السعودية لا ينظر اليها أحيانا إلا كبنية دفاعية، أو صورة من صور المقاومة الإجتماعية للسطوة الذكورية، ومحاولة يائسة للحضور، فبعض القراءات المبيّتة لا تصنفها إلا كحالات من التكاذب، تماما كما ينظر لمجمل الأدب الأنثوي كمحاولات للتماس بعوالم يحتلها الرجل، أي كحبكات للإغراء والغزل، عند تحليل شكل الاندساس الذي تبديه الروائية للدخول الى عالم الكتابة، وهو ما قد يخضع ذات الروائية لمحاكمة نفسية من خلال رواياتها، أو قد تتأولها القراءات كسجل إجتماعي يحيل الى شيء من المطابقة الببليوغرافية لمنتجة النص الروائي، عوضا عن مقاربته كنص أدبي، رغم أهمية أن يعكس جانبا من تجربة الراوية.
ويبدو أن الأمر بحاجة إلى دراسة تشريحية للنساء المنتجات للرواية السعودية وتأمل وضعهن من حيث علاقتهن ليس بمفهوم الكتابة وحسب بل وبمعنى الحداثة الاجتماعية، بمحايثة ذلك الانتاج الروائي الآخذ في التمثل ازاء بقية الخطابات، فما بشرت به انعطافات كثيرة ولافتة، تأسس على مراكمات وإزاحات جوهرية في القوانين والأعراف والعادات، وكذلك فيما توارثته الأجيال النسوية لمعنى الكتابة والهوية الجماعية للكاتبات بوجه عام داخل الفعل الروائي، أو هذا ما ينبغي التأكيد عليه لتوسيع تلك الذات الجمعية، كما تحدث الآن ضمن شرط أو إطار تاريخي، توليدا لقيم مغايرة، فهنالك حالة من التواشج بين الظروف المادية لحياة الروائيات وأشكال تعبيرهن، والتلازم بين ما يجري في الحياة والنص انعكاس مجازي للحداثة الاجتماعية، يتم بالضرورة عبر تمثلات الذات وانفعالا باللحظة والمكان والموضوعفي مرآة المحرّم الثقافي .. الرواية تمشط شعرها
يبدو أن الرواية النسوية السعودية في معظمها لا زالت تعيش عالم ما قبل الرواية، فهي متولدة أصلا في ظل نظام رمزي قاهر، وضمن حقل ثقافي محاصر بسياج من التسلط النفسي والفكري، إذ لا تعكس صيرورة وزمن الحداثة الإجتماعية، وهو ما يفسر الخواء الذي يتلبسها، حيث لا تحضر تلك السادية المتوخاة كفعل تعرية، ولا يتأنث السرد بما يكفي لاستعراض اغواءاته اللغوية والشعورية أمام ذكورية القارئ، والتي تحيل تعاسة الراوية وتناقضاتها وهواجسها إلى شكل من أشكال القدسية.
ويبدو أنها أعجز عن التماس بحقيقة الفعل الروائي القائمة على استدماج الفكرة وكافة الوسائل العقلية وغير العقلية القصصية والتأملية القادرة على اضاءة كينونة الانسان، كما أنها على درجة من الوقار لتنأى عن تخوم التصعيد الحسي، حيث التمادي في انتهاك الذات وتدنيسها، بما يتيح للمسرود له، فرصة التمري عموديا في ذاته، فالقسوة السافرة مع الذات ضرورة لتفصيحها، ولتحريك ركود النص الذي قيل بعضه، بلسان كائن يمارس طقسية مزدوجة من الصمت واحترازات الكلام المحسوب في آن، بما يعني تمكيث المرأة كرمز وعلامة داخل المحرّم الثقافي، والتأكيد على إخفائها بقصدية - روائية - عن عين الذكر المتلصصة، بحيث تظل متخيلة رمزيا، ومؤولة ذهنيا، أو مستبدلة باستعارات موضوعية كبدائل هروبية للانحياز عن المستور الثقافي بكل تداعياته الاجتماعية والنفسية، الأمر الذي ينأى بها عن طاقة الفعل الروائي ( الهدمي /البنائي ) المحايث لفعل الحداثة الاجتماعية.
ويبدو أن التلازم التاريخي للمرأة بالرواية مقولة بحاجة إلى شيء من التأكيد هنا، فالرواية غير ممكنة التحقق في أفق لا روائي. ولا رواية أصلا من دون فضاء ديمقراطي، وكل نص روائي لا ينفصل بحال عن بنيته الثقافية الأشمل، بما تؤمّنه تلك البنية للفعل الروائي من وسائل وهوامش لكي يتخلص من معوقاته، وعلى ذلك لم تتولد الرواية النسوية السعودية في أفق ثقافي بقدر ما انبثقت في أرضية اجتماعية، بمعنى انها لم تكن في أغلب الأحيان سوى عنوان جديد لحالة اختلال اجتماعية مزمنة تجدد لبوسها في صيغة أدبية أقرب الى الخطاب، كما تجسد ذلك مثلا عائشة زاهر بروايتها " بسمة في بحيرات الدموع " وهدى الرشيد بروايتها " غدا سيكون الخميس " حيث يتصعد الموضوع وتتراجع اللمسة الفنية، والأهم أن الفردانية كلازمة روائية لصياغة التاريخ الاجتماعي والتشكل داخل مستوجباتها تظل مغيبة، أو ربما غير مستوعبة فنيا وموضوعيا.
وهذا يعني أن الدال الرمزي وتوأمه الخيالي يتنازلان في الغالب لدال الواقع، فيما يفترض الفعل الروائي النفي المتكرر لذلك الواقع والتمرد على محاولات اعادة انتاجه، بحيث تكون الفردية فرصة لصياغة التاريخ أو توصيف الشكل الأحدث للمسألة الاجتماعية، بما هي المجاز الحداثي، كما تؤكد كل نظريات نشأة الرواية، فطريقها هو التاريخ الموازي للأزمنة الحديثة، وعليه فان تعاطي الرواية يعني تحقيق ذلك التماهي بحداثة الحراك الاجتماعي، انطلاقا من التعايش مع مستوى ثقافي أحدث، تكون فيه الرواية أحدى تلك التمثلات المشاهدة على تعددية الأصوات وتنوع الأداءات، فالسرد النسائي يفترض أن يكون مغامرة لبقاء وإبقاء الذات حية، أو جعلها أكثر تماسكا ازاء العالم.
ومنذ روايتها " بريق عينيك " لسميرة خاشقجي ( سميرة بنت الجزيرة ) مرت أربعة عقود لم تحقق الرواية النسوية السعودية - كما أو كيفا - ذلك النصاب الأدبي المفترض، فيما يبدو تخلفا سافرا عن محايثة فعل التنمية المتسارع بكل تشظياته، رغم أن الكتابة الروائية هي الأسهل بالنسبة للمرأة مقارنة بمتطلبات الشعر، وهو الأمر الذي يستدعي التماس ببنى الصمت الأنثوي لسماع ما لا تريد أو لا تقدر على قوله روايات أمل شطا في " آدم يا سيدي ". وهند باغفار في " البراءة المفقودة ". وسلوى دمنهوري في " اللعنة ". وأمل فاران في " روحها الموشومة به ".كما يحتم ذلك الحذر مقاربة دلالات الغياب، فقد يمكن الإصغاء إلى قصص لم ترو، والوقوف على استثنائية ذلك النمط الروائي، أو ما يمكن أعتباره حالة تمويهية للتعبير غير المباشر، باعتباره منهجية تملص ومراوغة أسلوبية تحث على تعويض ما لا يقال.
إن بنى الصمت تلك، كما تبدو بصيغة فراغات وفجوات، أو نصف صوت، وبالتالي نصف نص، هي من ناحية الوعي أشبه بغمامات القمع، على اعتبار أن النصف الثاني لم يتلفظ به، حين يعجز وعي الذات الأنثوية عن التصريح، أو يفشل في التعبير عن نفسه، فالصمت كمجاز، وكوجود نصي، إشارة لكل الظروف المادية المعوّقة للإبداع الإنساني، كالافتقار الى الوقت والمال والدعم العائلي والاجتماعي، وتقاليد المرء الخاصة، وثقته بحقه في اللغة العامة، بالاضافة الى الخطاب المتيسر الذي يوفر له فرصة أن يقول الحقيقة. ومن ناحية ثانية يعني غياب النص، حالة من التأكيد على الاضطهاد، والتناقض، والموضع الذي تقيم فيه تلك الايدلوجيا المتبائسة أو المقهورة، التي تخشى أن تصل بالرواية إلى درجة تحيل بها جسدها الى نص.
لم تنكتب الذات الأنثوية كما ينبغي، فهي تقيم في الهوامش. أو كما وصفهن الدكتور حسن الهويمل في مدخله لدراسة الإبداع القصصي والروائي والمسرحي في المملكة بأنهن " متذبذبات بين الموهبة والإقتدار، والفعل والافتعال والتكلف والعفوية، والتجريب المتزن والاندفاع المنفعل، وقضاياهن تدور حول المرأة: تعليماً، عملاً، علاقات زوجية، عنوسة، طلاق، تعدد، وفاء وخيانة. وهن أقرب إلى الوعظية والإرشادية والاحتشام وإن ند بعضهن " بما يعني انتفاء القدرة أو الرغبة ربما على الخلق وتكريس فكرة العجز الفكري والابداعي، والارتكاس الى موضوعات تؤكد على جنسانية الروائيات في ازدواجية الإنتماء واللا إنتماء، فيما يبدو الرضى بالتشكل ككائن يصغي بصبر وانقهار إلى ما يؤسسه الرجل من قيم التفكير والسلوك وهامش الحضور الحياتي والابداعي، وبالتالي الارتهان الى طقسية الصمت والكلام المنقوص.
وللتمثيل على رحلة الأنا الروائية النسوية السعودية في تشكلها عبر اللغة لمطابقة المتخيل الروائي ببنى النظام الرمزي، يمكن القول مثلا أن ليس ثمة مكبر صوت في رأس " فضة " بطلة رواية " وجهة البوصلة " لنورة الغامدي، ليعلمنا الكثير عن أنفسنا، أو حتى الإفضاء بما لا نعرفه عن المرأة، بمونولوج داخلي مرآوي يتفنن في استعراض أخاييل الذات وخباياها المتعارضة، رغم جرأة الطرح، وحضور الراوية المكثف لدرجة امتزاج صوتها بصوت البطلة، فالرواية استدعت شخصيات بلا وظيفة، وتشاغلت بقضايا فلسطين والعراق دون تزمينها كخلفية لحداثة اجتماعية مستوجبة.
وربما أرادت نورة الغامدي بتلك الهوامش تشتيت " الأنا " والتقليل من غلوائها، أو عدم تقويتها، لئلا يزداد اغتراب الروائية عبر بطلتها، بما يعني نأي الرواية النسوية السعودية عن مهمة اكتشاف طاقة الرواية كأداة تدمير للقيم الذكورية المكرّسة، أو ربما لم تحسن استخدامها، على اعتبار أن القص هو الحيلة الشهرزادية لتفتيت وهم السلطة الذكورية، فالكتابة هي المكان الذي ينشأ فيه الفكر التدميري، بما هي قرين اللغة كمصدر جنون ووعي الكائن الأنثوي ومراوحاته لتأنيث الذاكرة واللغة، بما يعني ارتباك المراحل التي يمكن أن تقطعها تلك " الأنا " الأنثوية في رحلتها للوصول الى هوية متخيلة، تعيد تعريف نفسها من خلالها، وبها يمكن فيما بعد مجادلة الآخر بها داخل النظام الرمزي.
وبما أن الرواية وثيقة الصلة بالحياة الواقعية فان قيمها تعكس بالضرورة واقعية قيم الحياة تلك، للإبقاء على حيوية السرد، أي ضرورة أن تقدم الرواية لنا الحياة، لأنها هي التي تعطينا الرواية، لكن النص الروائي الأنثوي يمارس غيابه بقصدية لها مبرراتها الفنية والموضوعية، فرجاء عالم مثلا الأبرز بين الروائيات - انتاجا وحرفية - تنزاح بوعي مبيت أو مراودات حداثية وما بعد حداثية عن تلك المكامن الإفتراضية، وتراهن بمتوالياتها الروائية ( خاتم - مسرى يا رقيب - حبي - موقد الطير ) على الميثي وتذويت التاريخ، بلغة اختراقية للإمتثالي من السرد العربي، تقوم على قطيعة صريحة مع القارئ، بالنظر الى كونها تراهن بتعاليات " الكتابة " مقابل القص أو الحكي وان استدمجتها بشكل مفتعل أحيانا، فهي تقوم على استراتيجية تتجاوز المتلقي إلى ما يشبه التخاطب مع التاريخ، أو ما يمكن اعتباره حالة من ابتناء مجد ابداعي بفرادة أسلوبية.
وعند مها محمد الفيصل تتأسلم الرواية، أو تنحاز بها إلى رومنطيقية صوفية بمعنى أدق، حيث ينحى السرد في روايتيها " توبة وسيليى " وأيضا " سفينة وأميرة الظلال " إلى مزيج من التأسطر والتصوف فيما يشبه الإسقاط الكولاجي لمخزون قرائي من الموروث، مستدعى بآلية استظهارية وليس تحت وطأة الاستذكار، في صيغة ترميزية أقرب إلى عجائيبية الحكي وتلغيزه بشكل تركيبي، بما يعني اغتراب السرد أوانتفاء حالة الانفعال باللحظة والمكان، فالذات الروائية هنا تنبني على التجانس مع المقروء وليس على ادراك " الأنا " كمعبر للتماس والتغاير مع الآخر.
أما نجيبة السيد فتكتفي بنصف صوت تتقاسم نصفه الآخر مع رجل ( منصور السيف ) وذلك في رواياتها ( عندما يحلم الراعي - دموع مسلحة - تحت الجذوع ) الأمر الذي يخفض في سرديتها صفاء النبرة الأنثوية، خصوصا في اتكائها على تأصيل جملة من رومانسية الأبعاد الإمتثالية داخل الفعل الروائي، والإغراق في الموضوعية على حساب النزعة الذاتية أو الفردانية، بما يؤكد على استتراتيجية سردية تتجاوب بشكل طوعي مع منظومة القيم المكّرسة، حيث تتضاءل نبرة التحدي، وبما يعني أن تطفو الموضوعات وفق آلية انفصال واتصال للذات الروائية عن موضوعها، حيث المبالغة في الرهان على قارئ ضمني تتفنن في استرضائه وإخضاع السرد لمتطلباته، بما هو ضمير الرواية الأخلاقي، عندما يتمثل كمروي ومسرود له في آن.
ذلك المنحى التعقيمي بمعناه وشكله التقريري هو ما تؤديه صفية عنبر سرديا وتتوغل فيه بسلسلتها الروائية ( عفوا آدم - وهج بين رماد السنين - أوراق مبعثرة من زوبعة العمر ) لتجسيد دراما التحولات الإجتماعية بمعناها الأفقي وبشيء من التوشية العاطفية، أي ضمن ثنائية الرجل/المرأة، ومحاكمة المفاهيم الذكورية المنبسطة خارج المركبات النوعية للمكون التاريخي، وداخل الأعراف والممارسات والتقاليد، وكأن الكتابة النسوية منذورة للرد بنبرة وجدانية على حالة التغالق والانفتاح التي يبديها الوعي الذكوري التنميطي للمرأة على الدوام، وعليه تبدو هذه الرواية وكأنها مهمة تثقيفية أنثوية صرفة بهذا الشأن، لإفهام الرجل مقومات الكائن الأنثوي، ولتكف النساء عن لعب دور المرايا المضخّمة لدور وحجم الرجل، اتكاء على فكرة ميل المرأة الطبيعي إلى الفضيلة وامكانية ممارستها تأثيرا اخلاقيا ايجابيا على الرجال، بما هي قرينة الحق والخير والجمال،كما تميل الكتابات ذات النزعة النسوية.
ولكن ليلى الجهني تمارس بعض الإستثناء الروائي، حيث تطرق في روايتها " الفردوس اليباب " موضوع الحب من منظور وخبرات التجربة الحسية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى كتابة صادمة بالنظر الى حتمية أن يكون الفعل السردي مثيرا وبالتالي متخففا من صرامة الأعراف والأخلاقية، مع التأكيد على أن النزعة الوعظية يمكن أن تقتل الرومانسي داخل ذلك النمط من الفعل الروائي، وهذا ما حاولته في مزدوجة الخفاء والتجلي، بمعادلة سردية تقوم على الصمت والإفضاء، والتي يصعب استيعابها أو الدفاع عنها فنيا بسهولة، عند تحليل مضامين القوة التي تتأسس بحس استبطاني لإبراز الإنسان، يدخل بمركباته النوعية في علاقة من التدافع لخلع قوة أخرى أو إقالتها من خلال طاقة التمثل السردي كمعادل لقوة الحياة، أو هذا ما تبين عنه الرواية النسوية السعودية عند تحليل شكل التمثل في انتاج اللغة كمكون بنيوي يتناغم بالضرورة مع قدرة الروائية خارجه.
هكذا يبدو التنوع الأدائي، والتعدد الموضوعاتي في ذلك الشتات الروائي، فهو ليس دلالة حيوية، بقدر ما يتبدى كعنوان عريض للهروب من استحقاقات الذات ومستوجبات الكتابة بما هي شكل للحضور والهوية، فهي لا تثاقف لحظتها، بل تنفصل أحيانا حتى عن موضوعها، حيث تتشاغل بذاتها الروائية فتعجز عن ادراك الذوات المغايرة لها، ربما لأن القلم لا زال هو المعادل لكل ما هو ذكوري، فعندما حصلت المرأة على التعليم، وامتلكت نبرتها الخاصة لم تأخذ حق التجربة كأس للكتابة الروائية، وبالتالي بتن عاجزات عن الكتابة بحرية، وهو ما يبدو بشكل جلي في ذلك النمط السردي بكل ما يعتوره من عوز في التجربة الحياتية والخبرات الثقافية.
وقد يتعلق الأمر بارتهان الرواية النسائية السعودية إلى معايير نسوية محضة، تبالغ في الإتكاء على أيدلوجيا الاضطهاد وتضخيم سلطة الخوف من الذكوري بما يحتمه الخطاب الإجتماعي من قوامع وما يستتبع ذلك من شرعنة مؤسساتية لمصادرة الصوت النسوي، بحيث تقصي النساء عن الكتابة الفاعلة، حيث يتحركن بكتاباتهن في عالم الرجال كقدر، فما زلن يفكرن من خلال أمهاتهن، وذلك ما يبدو واضحا وممكثا عند قماشة العليان بمتوالياتها الروائية والقصصية ( أنثى العنكبوت - عيون على السماء - بيت من زجاج - بكاء تحت المطر ) حيث الإلتصاق بالسببية الإجتماعية والتاريخية والثقافية، والتعبير عنها بسردية شكلانية وليس ضمن علاقات لغوية تعكس استبطانات الصيرورة الخفية لمفاعيل السلطة، أو مفارقاتها الخفية، فهي غير متأتية ضمن الصيرورة الروائية المولّدة للصوت الواعي بمعنى القوة كفعل محايث للحداثة الإجتماعية.
إذا، الروائية السعودية خاضعة بشكل واضح لتأثير التقاليد. وقد يصح التحليل القائل بأن المرأة تخاطب جمهورا من النساء، لكنها تعرف تماما كما هو حالها دائما أن الرجال يسترقون السمع، وبالتالي تتورط في مأزق اللغة والشكل فنيا، ومسألة اعادة الاعتبار البيولوجي والثقافي للمرأة في عالم تتقاسمه مع رجال على درجة من العناد الحقوقي، ولذلك لا يبدو أن إقصاء الرجل من الجمهور مسألة ممكنة استراتيجيا، وهو ما يفسر نبرة التباؤس وانخفاض روح التحدي، ليس بالمعنى الحقوقي ولكن بمعنى الإعتقاد العاطفي وتمثله روائيا ، بحيث لا تنأسر الى النزعة الرومانتيكية الساذجة، كما حللتها الكتابات النسوية، حيث عن صلة الكاتبة بالشخصية الرومانتيكية المغتربة، فعندما تختفي نبرة الغضب فهذا يعني أن الروائية محتواة أصلا بالقيم الثقافية الذكورية السائدة، إذ غالبا ما تؤدي وظيفة أو صورة انقسام ذاتها، أي الرغبة في قبول بنى المجتمع البطرياركي ورفضها في الوقت ذاته، ولكن دون إبداء أي مقاومة مقنعة من خلال الفعل الروائي.
وربما يتعلق الأمر بعطالة المخيلة الأنثوية كطريقة لادراك العالم، لأن الابداع يتطلب شروطا معينة ظلت غائبة بالنسبة للروائية السعودية، فالظواهر الفنية المتماثلة والمتكررة وفي مقدمتها تمركز السرد حول الإنوثة التي يصار الى تأكيدها والإحتفاء بها من خلال الجسد وهو ما يقصي المرأة عن تعاليات النوع الكتابي الى محدودية الخطاب، ربما لأن المرأة عندما تكتب الرواية بآلية مغايرة تكون الذات هي مركزها، فاذا ما تجاوزت رواية شيئا من ذلك الحاجز الفني بدأ البحث عن الرجل الذي يقف خلف الروائية بشيء من التشكيك.
وقد يتعلق الأمر بمقروئية مجحفة، تساوي عدم قراءتها أصلا، حيث الاستخفاف بمنتج روائي غير ناضج، حسب التصورات التنميطية، فالرواية النسائية السعودية لا ينظر اليها أحيانا إلا كبنية دفاعية، أو صورة من صور المقاومة الإجتماعية للسطوة الذكورية، ومحاولة يائسة للحضور، فبعض القراءات المبيّتة لا تصنفها إلا كحالات من التكاذب، تماما كما ينظر لمجمل الأدب الأنثوي كمحاولات للتماس بعوالم يحتلها الرجل، أي كحبكات للإغراء والغزل، عند تحليل شكل الاندساس الذي تبديه الروائية للدخول الى عالم الكتابة، وهو ما قد يخضع ذات الروائية لمحاكمة نفسية من خلال رواياتها، أو قد تتأولها القراءات كسجل إجتماعي يحيل الى شيء من المطابقة الببليوغرافية لمنتجة النص الروائي، عوضا عن مقاربته كنص أدبي، رغم أهمية أن يعكس جانبا من تجربة الراوية.
ويبدو أن الأمر بحاجة إلى دراسة تشريحية للنساء المنتجات للرواية السعودية وتأمل وضعهن من حيث علاقتهن ليس بمفهوم الكتابة وحسب بل وبمعنى الحداثة الاجتماعية، بمحايثة ذلك الانتاج الروائي الآخذ في التمثل ازاء بقية الخطابات، فما بشرت به انعطافات كثيرة ولافتة، تأسس على مراكمات وإزاحات جوهرية في القوانين والأعراف والعادات، وكذلك فيما توارثته الأجيال النسوية لمعنى الكتابة والهوية الجماعية للكاتبات بوجه عام داخل الفعل الروائي، أو هذا ما ينبغي التأكيد عليه لتوسيع تلك الذات الجمعية، كما تحدث الآن ضمن شرط أو إطار تاريخي، توليدا لقيم مغايرة، فهنالك حالة من التواشج بين الظروف المادية لحياة الروائيات وأشكال تعبيرهن، والتلازم بين ما يجري في الحياة والنص انعكاس مجازي للحداثة الاجتماعية، يتم بالضرورة عبر تمثلات الذات وانفعالا باللحظة والمكان والموضوع
يبدو أن الرواية النسوية السعودية في معظمها لا زالت تعيش عالم ما قبل الرواية، فهي متولدة أصلا في ظل نظام رمزي قاهر، وضمن حقل ثقافي محاصر بسياج من التسلط النفسي والفكري، إذ لا تعكس صيرورة وزمن الحداثة الإجتماعية، وهو ما يفسر الخواء الذي يتلبسها، حيث لا تحضر تلك السادية المتوخاة كفعل تعرية، ولا يتأنث السرد بما يكفي لاستعراض اغواءاته اللغوية والشعورية أمام ذكورية القارئ، والتي تحيل تعاسة الراوية وتناقضاتها وهواجسها إلى شكل من أشكال القدسية.
ويبدو أنها أعجز عن التماس بحقيقة الفعل الروائي القائمة على استدماج الفكرة وكافة الوسائل العقلية وغير العقلية القصصية والتأملية القادرة على اضاءة كينونة الانسان، كما أنها على درجة من الوقار لتنأى عن تخوم التصعيد الحسي، حيث التمادي في انتهاك الذات وتدنيسها، بما يتيح للمسرود له، فرصة التمري عموديا في ذاته، فالقسوة السافرة مع الذات ضرورة لتفصيحها، ولتحريك ركود النص الذي قيل بعضه، بلسان كائن يمارس طقسية مزدوجة من الصمت واحترازات الكلام المحسوب في آن، بما يعني تمكيث المرأة كرمز وعلامة داخل المحرّم الثقافي، والتأكيد على إخفائها بقصدية - روائية - عن عين الذكر المتلصصة، بحيث تظل متخيلة رمزيا، ومؤولة ذهنيا، أو مستبدلة باستعارات موضوعية كبدائل هروبية للانحياز عن المستور الثقافي بكل تداعياته الاجتماعية والنفسية، الأمر الذي ينأى بها عن طاقة الفعل الروائي ( الهدمي /البنائي ) المحايث لفعل الحداثة الاجتماعية.
ويبدو أن التلازم التاريخي للمرأة بالرواية مقولة بحاجة إلى شيء من التأكيد هنا، فالرواية غير ممكنة التحقق في أفق لا روائي. ولا رواية أصلا من دون فضاء ديمقراطي، وكل نص روائي لا ينفصل بحال عن بنيته الثقافية الأشمل، بما تؤمّنه تلك البنية للفعل الروائي من وسائل وهوامش لكي يتخلص من معوقاته، وعلى ذلك لم تتولد الرواية النسوية السعودية في أفق ثقافي بقدر ما انبثقت في أرضية اجتماعية، بمعنى انها لم تكن في أغلب الأحيان سوى عنوان جديد لحالة اختلال اجتماعية مزمنة تجدد لبوسها في صيغة أدبية أقرب الى الخطاب، كما تجسد ذلك مثلا عائشة زاهر بروايتها " بسمة في بحيرات الدموع " وهدى الرشيد بروايتها " غدا سيكون الخميس " حيث يتصعد الموضوع وتتراجع اللمسة الفنية، والأهم أن الفردانية كلازمة روائية لصياغة التاريخ الاجتماعي والتشكل داخل مستوجباتها تظل مغيبة، أو ربما غير مستوعبة فنيا وموضوعيا.
وهذا يعني أن الدال الرمزي وتوأمه الخيالي يتنازلان في الغالب لدال الواقع، فيما يفترض الفعل الروائي النفي المتكرر لذلك الواقع والتمرد على محاولات اعادة انتاجه، بحيث تكون الفردية فرصة لصياغة التاريخ أو توصيف الشكل الأحدث للمسألة الاجتماعية، بما هي المجاز الحداثي، كما تؤكد كل نظريات نشأة الرواية، فطريقها هو التاريخ الموازي للأزمنة الحديثة، وعليه فان تعاطي الرواية يعني تحقيق ذلك التماهي بحداثة الحراك الاجتماعي، انطلاقا من التعايش مع مستوى ثقافي أحدث، تكون فيه الرواية أحدى تلك التمثلات المشاهدة على تعددية الأصوات وتنوع الأداءات، فالسرد النسائي يفترض أن يكون مغامرة لبقاء وإبقاء الذات حية، أو جعلها أكثر تماسكا ازاء العالم.
ومنذ روايتها " بريق عينيك " لسميرة خاشقجي ( سميرة بنت الجزيرة ) مرت أربعة عقود لم تحقق الرواية النسوية السعودية - كما أو كيفا - ذلك النصاب الأدبي المفترض، فيما يبدو تخلفا سافرا عن محايثة فعل التنمية المتسارع بكل تشظياته، رغم أن الكتابة الروائية هي الأسهل بالنسبة للمرأة مقارنة بمتطلبات الشعر، وهو الأمر الذي يستدعي التماس ببنى الصمت الأنثوي لسماع ما لا تريد أو لا تقدر على قوله روايات أمل شطا في " آدم يا سيدي ". وهند باغفار في " البراءة المفقودة ". وسلوى دمنهوري في " اللعنة ". وأمل فاران في " روحها الموشومة به ".كما يحتم ذلك الحذر مقاربة دلالات الغياب، فقد يمكن الإصغاء إلى قصص لم ترو، والوقوف على استثنائية ذلك النمط الروائي، أو ما يمكن أعتباره حالة تمويهية للتعبير غير المباشر، باعتباره منهجية تملص ومراوغة أسلوبية تحث على تعويض ما لا يقال.
إن بنى الصمت تلك، كما تبدو بصيغة فراغات وفجوات، أو نصف صوت، وبالتالي نصف نص، هي من ناحية الوعي أشبه بغمامات القمع، على اعتبار أن النصف الثاني لم يتلفظ به، حين يعجز وعي الذات الأنثوية عن التصريح، أو يفشل في التعبير عن نفسه، فالصمت كمجاز، وكوجود نصي، إشارة لكل الظروف المادية المعوّقة للإبداع الإنساني، كالافتقار الى الوقت والمال والدعم العائلي والاجتماعي، وتقاليد المرء الخاصة، وثقته بحقه في اللغة العامة، بالاضافة الى الخطاب المتيسر الذي يوفر له فرصة أن يقول الحقيقة. ومن ناحية ثانية يعني غياب النص، حالة من التأكيد على الاضطهاد، والتناقض، والموضع الذي تقيم فيه تلك الايدلوجيا المتبائسة أو المقهورة، التي تخشى أن تصل بالرواية إلى درجة تحيل بها جسدها الى نص.
لم تنكتب الذات الأنثوية كما ينبغي، فهي تقيم في الهوامش. أو كما وصفهن الدكتور حسن الهويمل في مدخله لدراسة الإبداع القصصي والروائي والمسرحي في المملكة بأنهن " متذبذبات بين الموهبة والإقتدار، والفعل والافتعال والتكلف والعفوية، والتجريب المتزن والاندفاع المنفعل، وقضاياهن تدور حول المرأة: تعليماً، عملاً، علاقات زوجية، عنوسة، طلاق، تعدد، وفاء وخيانة. وهن أقرب إلى الوعظية والإرشادية والاحتشام وإن ند بعضهن " بما يعني انتفاء القدرة أو الرغبة ربما على الخلق وتكريس فكرة العجز الفكري والابداعي، والارتكاس الى موضوعات تؤكد على جنسانية الروائيات في ازدواجية الإنتماء واللا إنتماء، فيما يبدو الرضى بالتشكل ككائن يصغي بصبر وانقهار إلى ما يؤسسه الرجل من قيم التفكير والسلوك وهامش الحضور الحياتي والابداعي، وبالتالي الارتهان الى طقسية الصمت والكلام المنقوص.
وللتمثيل على رحلة الأنا الروائية النسوية السعودية في تشكلها عبر اللغة لمطابقة المتخيل الروائي ببنى النظام الرمزي، يمكن القول مثلا أن ليس ثمة مكبر صوت في رأس " فضة " بطلة رواية " وجهة البوصلة " لنورة الغامدي، ليعلمنا الكثير عن أنفسنا، أو حتى الإفضاء بما لا نعرفه عن المرأة، بمونولوج داخلي مرآوي يتفنن في استعراض أخاييل الذات وخباياها المتعارضة، رغم جرأة الطرح، وحضور الراوية المكثف لدرجة امتزاج صوتها بصوت البطلة، فالرواية استدعت شخصيات بلا وظيفة، وتشاغلت بقضايا فلسطين والعراق دون تزمينها كخلفية لحداثة اجتماعية مستوجبة.
وربما أرادت نورة الغامدي بتلك الهوامش تشتيت " الأنا " والتقليل من غلوائها، أو عدم تقويتها، لئلا يزداد اغتراب الروائية عبر بطلتها، بما يعني نأي الرواية النسوية السعودية عن مهمة اكتشاف طاقة الرواية كأداة تدمير للقيم الذكورية المكرّسة، أو ربما لم تحسن استخدامها، على اعتبار أن القص هو الحيلة الشهرزادية لتفتيت وهم السلطة الذكورية، فالكتابة هي المكان الذي ينشأ فيه الفكر التدميري، بما هي قرين اللغة كمصدر جنون ووعي الكائن الأنثوي ومراوحاته لتأنيث الذاكرة واللغة، بما يعني ارتباك المراحل التي يمكن أن تقطعها تلك " الأنا " الأنثوية في رحلتها للوصول الى هوية متخيلة، تعيد تعريف نفسها من خلالها، وبها يمكن فيما بعد مجادلة الآخر بها داخل النظام الرمزي.
وبما أن الرواية وثيقة الصلة بالحياة الواقعية فان قيمها تعكس بالضرورة واقعية قيم الحياة تلك، للإبقاء على حيوية السرد، أي ضرورة أن تقدم الرواية لنا الحياة، لأنها هي التي تعطينا الرواية، لكن النص الروائي الأنثوي يمارس غيابه بقصدية لها مبرراتها الفنية والموضوعية، فرجاء عالم مثلا الأبرز بين الروائيات - انتاجا وحرفية - تنزاح بوعي مبيت أو مراودات حداثية وما بعد حداثية عن تلك المكامن الإفتراضية، وتراهن بمتوالياتها الروائية ( خاتم - مسرى يا رقيب - حبي - موقد الطير ) على الميثي وتذويت التاريخ، بلغة اختراقية للإمتثالي من السرد العربي، تقوم على قطيعة صريحة مع القارئ، بالنظر الى كونها تراهن بتعاليات " الكتابة " مقابل القص أو الحكي وان استدمجتها بشكل مفتعل أحيانا، فهي تقوم على استراتيجية تتجاوز المتلقي إلى ما يشبه التخاطب مع التاريخ، أو ما يمكن اعتباره حالة من ابتناء مجد ابداعي بفرادة أسلوبية.
وعند مها محمد الفيصل تتأسلم الرواية، أو تنحاز بها إلى رومنطيقية صوفية بمعنى أدق، حيث ينحى السرد في روايتيها " توبة وسيليى " وأيضا " سفينة وأميرة الظلال " إلى مزيج من التأسطر والتصوف فيما يشبه الإسقاط الكولاجي لمخزون قرائي من الموروث، مستدعى بآلية استظهارية وليس تحت وطأة الاستذكار، في صيغة ترميزية أقرب إلى عجائيبية الحكي وتلغيزه بشكل تركيبي، بما يعني اغتراب السرد أوانتفاء حالة الانفعال باللحظة والمكان، فالذات الروائية هنا تنبني على التجانس مع المقروء وليس على ادراك " الأنا " كمعبر للتماس والتغاير مع الآخر.
أما نجيبة السيد فتكتفي بنصف صوت تتقاسم نصفه الآخر مع رجل ( منصور السيف ) وذلك في رواياتها ( عندما يحلم الراعي - دموع مسلحة - تحت الجذوع ) الأمر الذي يخفض في سرديتها صفاء النبرة الأنثوية، خصوصا في اتكائها على تأصيل جملة من رومانسية الأبعاد الإمتثالية داخل الفعل الروائي، والإغراق في الموضوعية على حساب النزعة الذاتية أو الفردانية، بما يؤكد على استتراتيجية سردية تتجاوب بشكل طوعي مع منظومة القيم المكّرسة، حيث تتضاءل نبرة التحدي، وبما يعني أن تطفو الموضوعات وفق آلية انفصال واتصال للذات الروائية عن موضوعها، حيث المبالغة في الرهان على قارئ ضمني تتفنن في استرضائه وإخضاع السرد لمتطلباته، بما هو ضمير الرواية الأخلاقي، عندما يتمثل كمروي ومسرود له في آن.
ذلك المنحى التعقيمي بمعناه وشكله التقريري هو ما تؤديه صفية عنبر سرديا وتتوغل فيه بسلسلتها الروائية ( عفوا آدم - وهج بين رماد السنين - أوراق مبعثرة من زوبعة العمر ) لتجسيد دراما التحولات الإجتماعية بمعناها الأفقي وبشيء من التوشية العاطفية، أي ضمن ثنائية الرجل/المرأة، ومحاكمة المفاهيم الذكورية المنبسطة خارج المركبات النوعية للمكون التاريخي، وداخل الأعراف والممارسات والتقاليد، وكأن الكتابة النسوية منذورة للرد بنبرة وجدانية على حالة التغالق والانفتاح التي يبديها الوعي الذكوري التنميطي للمرأة على الدوام، وعليه تبدو هذه الرواية وكأنها مهمة تثقيفية أنثوية صرفة بهذا الشأن، لإفهام الرجل مقومات الكائن الأنثوي، ولتكف النساء عن لعب دور المرايا المضخّمة لدور وحجم الرجل، اتكاء على فكرة ميل المرأة الطبيعي إلى الفضيلة وامكانية ممارستها تأثيرا اخلاقيا ايجابيا على الرجال، بما هي قرينة الحق والخير والجمال،كما تميل الكتابات ذات النزعة النسوية.
ولكن ليلى الجهني تمارس بعض الإستثناء الروائي، حيث تطرق في روايتها " الفردوس اليباب " موضوع الحب من منظور وخبرات التجربة الحسية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى كتابة صادمة بالنظر الى حتمية أن يكون الفعل السردي مثيرا وبالتالي متخففا من صرامة الأعراف والأخلاقية، مع التأكيد على أن النزعة الوعظية يمكن أن تقتل الرومانسي داخل ذلك النمط من الفعل الروائي، وهذا ما حاولته في مزدوجة الخفاء والتجلي، بمعادلة سردية تقوم على الصمت والإفضاء، والتي يصعب استيعابها أو الدفاع عنها فنيا بسهولة، عند تحليل مضامين القوة التي تتأسس بحس استبطاني لإبراز الإنسان، يدخل بمركباته النوعية في علاقة من التدافع لخلع قوة أخرى أو إقالتها من خلال طاقة التمثل السردي كمعادل لقوة الحياة، أو هذا ما تبين عنه الرواية النسوية السعودية عند تحليل شكل التمثل في انتاج اللغة كمكون بنيوي يتناغم بالضرورة مع قدرة الروائية خارجه.
هكذا يبدو التنوع الأدائي، والتعدد الموضوعاتي في ذلك الشتات الروائي، فهو ليس دلالة حيوية، بقدر ما يتبدى كعنوان عريض للهروب من استحقاقات الذات ومستوجبات الكتابة بما هي شكل للحضور والهوية، فهي لا تثاقف لحظتها، بل تنفصل أحيانا حتى عن موضوعها، حيث تتشاغل بذاتها الروائية فتعجز عن ادراك الذوات المغايرة لها، ربما لأن القلم لا زال هو المعادل لكل ما هو ذكوري، فعندما حصلت المرأة على التعليم، وامتلكت نبرتها الخاصة لم تأخذ حق التجربة كأس للكتابة الروائية، وبالتالي بتن عاجزات عن الكتابة بحرية، وهو ما يبدو بشكل جلي في ذلك النمط السردي بكل ما يعتوره من عوز في التجربة الحياتية والخبرات الثقافية.
وقد يتعلق الأمر بارتهان الرواية النسائية السعودية إلى معايير نسوية محضة، تبالغ في الإتكاء على أيدلوجيا الاضطهاد وتضخيم سلطة الخوف من الذكوري بما يحتمه الخطاب الإجتماعي من قوامع وما يستتبع ذلك من شرعنة مؤسساتية لمصادرة الصوت النسوي، بحيث تقصي النساء عن الكتابة الفاعلة، حيث يتحركن بكتاباتهن في عالم الرجال كقدر، فما زلن يفكرن من خلال أمهاتهن، وذلك ما يبدو واضحا وممكثا عند قماشة العليان بمتوالياتها الروائية والقصصية ( أنثى العنكبوت - عيون على السماء - بيت من زجاج - بكاء تحت المطر ) حيث الإلتصاق بالسببية الإجتماعية والتاريخية والثقافية، والتعبير عنها بسردية شكلانية وليس ضمن علاقات لغوية تعكس استبطانات الصيرورة الخفية لمفاعيل السلطة، أو مفارقاتها الخفية، فهي غير متأتية ضمن الصيرورة الروائية المولّدة للصوت الواعي بمعنى القوة كفعل محايث للحداثة الإجتماعية.
إذا، الروائية السعودية خاضعة بشكل واضح لتأثير التقاليد. وقد يصح التحليل القائل بأن المرأة تخاطب جمهورا من النساء، لكنها تعرف تماما كما هو حالها دائما أن الرجال يسترقون السمع، وبالتالي تتورط في مأزق اللغة والشكل فنيا، ومسألة اعادة الاعتبار البيولوجي والثقافي للمرأة في عالم تتقاسمه مع رجال على درجة من العناد الحقوقي، ولذلك لا يبدو أن إقصاء الرجل من الجمهور مسألة ممكنة استراتيجيا، وهو ما يفسر نبرة التباؤس وانخفاض روح التحدي، ليس بالمعنى الحقوقي ولكن بمعنى الإعتقاد العاطفي وتمثله روائيا ، بحيث لا تنأسر الى النزعة الرومانتيكية الساذجة، كما حللتها الكتابات النسوية، حيث عن صلة الكاتبة بالشخصية الرومانتيكية المغتربة، فعندما تختفي نبرة الغضب فهذا يعني أن الروائية محتواة أصلا بالقيم الثقافية الذكورية السائدة، إذ غالبا ما تؤدي وظيفة أو صورة انقسام ذاتها، أي الرغبة في قبول بنى المجتمع البطرياركي ورفضها في الوقت ذاته، ولكن دون إبداء أي مقاومة مقنعة من خلال الفعل الروائي.
وربما يتعلق الأمر بعطالة المخيلة الأنثوية كطريقة لادراك العالم، لأن الابداع يتطلب شروطا معينة ظلت غائبة بالنسبة للروائية السعودية، فالظواهر الفنية المتماثلة والمتكررة وفي مقدمتها تمركز السرد حول الإنوثة التي يصار الى تأكيدها والإحتفاء بها من خلال الجسد وهو ما يقصي المرأة عن تعاليات النوع الكتابي الى محدودية الخطاب، ربما لأن المرأة عندما تكتب الرواية بآلية مغايرة تكون الذات هي مركزها، فاذا ما تجاوزت رواية شيئا من ذلك الحاجز الفني بدأ البحث عن الرجل الذي يقف خلف الروائية بشيء من التشكيك.
وقد يتعلق الأمر بمقروئية مجحفة، تساوي عدم قراءتها أصلا، حيث الاستخفاف بمنتج روائي غير ناضج، حسب التصورات التنميطية، فالرواية النسائية السعودية لا ينظر اليها أحيانا إلا كبنية دفاعية، أو صورة من صور المقاومة الإجتماعية للسطوة الذكورية، ومحاولة يائسة للحضور، فبعض القراءات المبيّتة لا تصنفها إلا كحالات من التكاذب، تماما كما ينظر لمجمل الأدب الأنثوي كمحاولات للتماس بعوالم يحتلها الرجل، أي كحبكات للإغراء والغزل، عند تحليل شكل الاندساس الذي تبديه الروائية للدخول الى عالم الكتابة، وهو ما قد يخضع ذات الروائية لمحاكمة نفسية من خلال رواياتها، أو قد تتأولها القراءات كسجل إجتماعي يحيل الى شيء من المطابقة الببليوغرافية لمنتجة النص الروائي، عوضا عن مقاربته كنص أدبي، رغم أهمية أن يعكس جانبا من تجربة الراوية.
ويبدو أن الأمر بحاجة إلى دراسة تشريحية للنساء المنتجات للرواية السعودية وتأمل وضعهن من حيث علاقتهن ليس بمفهوم الكتابة وحسب بل وبمعنى الحداثة الاجتماعية، بمحايثة ذلك الانتاج الروائي الآخذ في التمثل ازاء بقية الخطابات، فما بشرت به انعطافات كثيرة ولافتة، تأسس على مراكمات وإزاحات جوهرية في القوانين والأعراف والعادات، وكذلك فيما توارثته الأجيال النسوية لمعنى الكتابة والهوية الجماعية للكاتبات بوجه عام داخل الفعل الروائي، أو هذا ما ينبغي التأكيد عليه لتوسيع تلك الذات الجمعية، كما تحدث الآن ضمن شرط أو إطار تاريخي، توليدا لقيم مغايرة، فهنالك حالة من التواشج بين الظروف المادية لحياة الروائيات وأشكال تعبيرهن، والتلازم بين ما يجري في الحياة والنص انعكاس مجازي للحداثة الاجتماعية، يتم بالضرورة عبر تمثلات الذات وانفعالا باللحظة والمكان والموضوعفي مرآة المحرّم الثقافي .. الرواية تمشط شعرها
يبدو أن الرواية النسوية السعودية في معظمها لا زالت تعيش عالم ما قبل الرواية، فهي متولدة أصلا في ظل نظام رمزي قاهر، وضمن حقل ثقافي محاصر بسياج من التسلط النفسي والفكري، إذ لا تعكس صيرورة وزمن الحداثة الإجتماعية، وهو ما يفسر الخواء الذي يتلبسها، حيث لا تحضر تلك السادية المتوخاة كفعل تعرية، ولا يتأنث السرد بما يكفي لاستعراض اغواءاته اللغوية والشعورية أمام ذكورية القارئ، والتي تحيل تعاسة الراوية وتناقضاتها وهواجسها إلى شكل من أشكال القدسية.
ويبدو أنها أعجز عن التماس بحقيقة الفعل الروائي القائمة على استدماج الفكرة وكافة الوسائل العقلية وغير العقلية القصصية والتأملية القادرة على اضاءة كينونة الانسان، كما أنها على درجة من الوقار لتنأى عن تخوم التصعيد الحسي، حيث التمادي في انتهاك الذات وتدنيسها، بما يتيح للمسرود له، فرصة التمري عموديا في ذاته، فالقسوة السافرة مع الذات ضرورة لتفصيحها، ولتحريك ركود النص الذي قيل بعضه، بلسان كائن يمارس طقسية مزدوجة من الصمت واحترازات الكلام المحسوب في آن، بما يعني تمكيث المرأة كرمز وعلامة داخل المحرّم الثقافي، والتأكيد على إخفائها بقصدية - روائية - عن عين الذكر المتلصصة، بحيث تظل متخيلة رمزيا، ومؤولة ذهنيا، أو مستبدلة باستعارات موضوعية كبدائل هروبية للانحياز عن المستور الثقافي بكل تداعياته الاجتماعية والنفسية، الأمر الذي ينأى بها عن طاقة الفعل الروائي ( الهدمي /البنائي ) المحايث لفعل الحداثة الاجتماعية.
ويبدو أن التلازم التاريخي للمرأة بالرواية مقولة بحاجة إلى شيء من التأكيد هنا، فالرواية غير ممكنة التحقق في أفق لا روائي. ولا رواية أصلا من دون فضاء ديمقراطي، وكل نص روائي لا ينفصل بحال عن بنيته الثقافية الأشمل، بما تؤمّنه تلك البنية للفعل الروائي من وسائل وهوامش لكي يتخلص من معوقاته، وعلى ذلك لم تتولد الرواية النسوية السعودية في أفق ثقافي بقدر ما انبثقت في أرضية اجتماعية، بمعنى انها لم تكن في أغلب الأحيان سوى عنوان جديد لحالة اختلال اجتماعية مزمنة تجدد لبوسها في صيغة أدبية أقرب الى الخطاب، كما تجسد ذلك مثلا عائشة زاهر بروايتها " بسمة في بحيرات الدموع " وهدى الرشيد بروايتها " غدا سيكون الخميس " حيث يتصعد الموضوع وتتراجع اللمسة الفنية، والأهم أن الفردانية كلازمة روائية لصياغة التاريخ الاجتماعي والتشكل داخل مستوجباتها تظل مغيبة، أو ربما غير مستوعبة فنيا وموضوعيا.
وهذا يعني أن الدال الرمزي وتوأمه الخيالي يتنازلان في الغالب لدال الواقع، فيما يفترض الفعل الروائي النفي المتكرر لذلك الواقع والتمرد على محاولات اعادة انتاجه، بحيث تكون الفردية فرصة لصياغة التاريخ أو توصيف الشكل الأحدث للمسألة الاجتماعية، بما هي المجاز الحداثي، كما تؤكد كل نظريات نشأة الرواية، فطريقها هو التاريخ الموازي للأزمنة الحديثة، وعليه فان تعاطي الرواية يعني تحقيق ذلك التماهي بحداثة الحراك الاجتماعي، انطلاقا من التعايش مع مستوى ثقافي أحدث، تكون فيه الرواية أحدى تلك التمثلات المشاهدة على تعددية الأصوات وتنوع الأداءات، فالسرد النسائي يفترض أن يكون مغامرة لبقاء وإبقاء الذات حية، أو جعلها أكثر تماسكا ازاء العالم.
ومنذ روايتها " بريق عينيك " لسميرة خاشقجي ( سميرة بنت الجزيرة ) مرت أربعة عقود لم تحقق الرواية النسوية السعودية - كما أو كيفا - ذلك النصاب الأدبي المفترض، فيما يبدو تخلفا سافرا عن محايثة فعل التنمية المتسارع بكل تشظياته، رغم أن الكتابة الروائية هي الأسهل بالنسبة للمرأة مقارنة بمتطلبات الشعر، وهو الأمر الذي يستدعي التماس ببنى الصمت الأنثوي لسماع ما لا تريد أو لا تقدر على قوله روايات أمل شطا في " آدم يا سيدي ". وهند باغفار في " البراءة المفقودة ". وسلوى دمنهوري في " اللعنة ". وأمل فاران في " روحها الموشومة به ".كما يحتم ذلك الحذر مقاربة دلالات الغياب، فقد يمكن الإصغاء إلى قصص لم ترو، والوقوف على استثنائية ذلك النمط الروائي، أو ما يمكن أعتباره حالة تمويهية للتعبير غير المباشر، باعتباره منهجية تملص ومراوغة أسلوبية تحث على تعويض ما لا يقال.
إن بنى الصمت تلك، كما تبدو بصيغة فراغات وفجوات، أو نصف صوت، وبالتالي نصف نص، هي من ناحية الوعي أشبه بغمامات القمع، على اعتبار أن النصف الثاني لم يتلفظ به، حين يعجز وعي الذات الأنثوية عن التصريح، أو يفشل في التعبير عن نفسه، فالصمت كمجاز، وكوجود نصي، إشارة لكل الظروف المادية المعوّقة للإبداع الإنساني، كالافتقار الى الوقت والمال والدعم العائلي والاجتماعي، وتقاليد المرء الخاصة، وثقته بحقه في اللغة العامة، بالاضافة الى الخطاب المتيسر الذي يوفر له فرصة أن يقول الحقيقة. ومن ناحية ثانية يعني غياب النص، حالة من التأكيد على الاضطهاد، والتناقض، والموضع الذي تقيم فيه تلك الايدلوجيا المتبائسة أو المقهورة، التي تخشى أن تصل بالرواية إلى درجة تحيل بها جسدها الى نص.
لم تنكتب الذات الأنثوية كما ينبغي، فهي تقيم في الهوامش. أو كما وصفهن الدكتور حسن الهويمل في مدخله لدراسة الإبداع القصصي والروائي والمسرحي في المملكة بأنهن " متذبذبات بين الموهبة والإقتدار، والفعل والافتعال والتكلف والعفوية، والتجريب المتزن والاندفاع المنفعل، وقضاياهن تدور حول المرأة: تعليماً، عملاً، علاقات زوجية، عنوسة، طلاق، تعدد، وفاء وخيانة. وهن أقرب إلى الوعظية والإرشادية والاحتشام وإن ند بعضهن " بما يعني انتفاء القدرة أو الرغبة ربما على الخلق وتكريس فكرة العجز الفكري والابداعي، والارتكاس الى موضوعات تؤكد على جنسانية الروائيات في ازدواجية الإنتماء واللا إنتماء، فيما يبدو الرضى بالتشكل ككائن يصغي بصبر وانقهار إلى ما يؤسسه الرجل من قيم التفكير والسلوك وهامش الحضور الحياتي والابداعي، وبالتالي الارتهان الى طقسية الصمت والكلام المنقوص.
وللتمثيل على رحلة الأنا الروائية النسوية السعودية في تشكلها عبر اللغة لمطابقة المتخيل الروائي ببنى النظام الرمزي، يمكن القول مثلا أن ليس ثمة مكبر صوت في رأس " فضة " بطلة رواية " وجهة البوصلة " لنورة الغامدي، ليعلمنا الكثير عن أنفسنا، أو حتى الإفضاء بما لا نعرفه عن المرأة، بمونولوج داخلي مرآوي يتفنن في استعراض أخاييل الذات وخباياها المتعارضة، رغم جرأة الطرح، وحضور الراوية المكثف لدرجة امتزاج صوتها بصوت البطلة، فالرواية استدعت شخصيات بلا وظيفة، وتشاغلت بقضايا فلسطين والعراق دون تزمينها كخلفية لحداثة اجتماعية مستوجبة.
وربما أرادت نورة الغامدي بتلك الهوامش تشتيت " الأنا " والتقليل من غلوائها، أو عدم تقويتها، لئلا يزداد اغتراب الروائية عبر بطلتها، بما يعني نأي الرواية النسوية السعودية عن مهمة اكتشاف طاقة الرواية كأداة تدمير للقيم الذكورية المكرّسة، أو ربما لم تحسن استخدامها، على اعتبار أن القص هو الحيلة الشهرزادية لتفتيت وهم السلطة الذكورية، فالكتابة هي المكان الذي ينشأ فيه الفكر التدميري، بما هي قرين اللغة كمصدر جنون ووعي الكائن الأنثوي ومراوحاته لتأنيث الذاكرة واللغة، بما يعني ارتباك المراحل التي يمكن أن تقطعها تلك " الأنا " الأنثوية في رحلتها للوصول الى هوية متخيلة، تعيد تعريف نفسها من خلالها، وبها يمكن فيما بعد مجادلة الآخر بها داخل النظام الرمزي.
وبما أن الرواية وثيقة الصلة بالحياة الواقعية فان قيمها تعكس بالضرورة واقعية قيم الحياة تلك، للإبقاء على حيوية السرد، أي ضرورة أن تقدم الرواية لنا الحياة، لأنها هي التي تعطينا الرواية، لكن النص الروائي الأنثوي يمارس غيابه بقصدية لها مبرراتها الفنية والموضوعية، فرجاء عالم مثلا الأبرز بين الروائيات - انتاجا وحرفية - تنزاح بوعي مبيت أو مراودات حداثية وما بعد حداثية عن تلك المكامن الإفتراضية، وتراهن بمتوالياتها الروائية ( خاتم - مسرى يا رقيب - حبي - موقد الطير ) على الميثي وتذويت التاريخ، بلغة اختراقية للإمتثالي من السرد العربي، تقوم على قطيعة صريحة مع القارئ، بالنظر الى كونها تراهن بتعاليات " الكتابة " مقابل القص أو الحكي وان استدمجتها بشكل مفتعل أحيانا، فهي تقوم على استراتيجية تتجاوز المتلقي إلى ما يشبه التخاطب مع التاريخ، أو ما يمكن اعتباره حالة من ابتناء مجد ابداعي بفرادة أسلوبية.
وعند مها محمد الفيصل تتأسلم الرواية، أو تنحاز بها إلى رومنطيقية صوفية بمعنى أدق، حيث ينحى السرد في روايتيها " توبة وسيليى " وأيضا " سفينة وأميرة الظلال " إلى مزيج من التأسطر والتصوف فيما يشبه الإسقاط الكولاجي لمخزون قرائي من الموروث، مستدعى بآلية استظهارية وليس تحت وطأة الاستذكار، في صيغة ترميزية أقرب إلى عجائيبية الحكي وتلغيزه بشكل تركيبي، بما يعني اغتراب السرد أوانتفاء حالة الانفعال باللحظة والمكان، فالذات الروائية هنا تنبني على التجانس مع المقروء وليس على ادراك " الأنا " كمعبر للتماس والتغاير مع الآخر.
أما نجيبة السيد فتكتفي بنصف صوت تتقاسم نصفه الآخر مع رجل ( منصور السيف ) وذلك في رواياتها ( عندما يحلم الراعي - دموع مسلحة - تحت الجذوع ) الأمر الذي يخفض في سرديتها صفاء النبرة الأنثوية، خصوصا في اتكائها على تأصيل جملة من رومانسية الأبعاد الإمتثالية داخل الفعل الروائي، والإغراق في الموضوعية على حساب النزعة الذاتية أو الفردانية، بما يؤكد على استتراتيجية سردية تتجاوب بشكل طوعي مع منظومة القيم المكّرسة، حيث تتضاءل نبرة التحدي، وبما يعني أن تطفو الموضوعات وفق آلية انفصال واتصال للذات الروائية عن موضوعها، حيث المبالغة في الرهان على قارئ ضمني تتفنن في استرضائه وإخضاع السرد لمتطلباته، بما هو ضمير الرواية الأخلاقي، عندما يتمثل كمروي ومسرود له في آن.
ذلك المنحى التعقيمي بمعناه وشكله التقريري هو ما تؤديه صفية عنبر سرديا وتتوغل فيه بسلسلتها الروائية ( عفوا آدم - وهج بين رماد السنين - أوراق مبعثرة من زوبعة العمر ) لتجسيد دراما التحولات الإجتماعية بمعناها الأفقي وبشيء من التوشية العاطفية، أي ضمن ثنائية الرجل/المرأة، ومحاكمة المفاهيم الذكورية المنبسطة خارج المركبات النوعية للمكون التاريخي، وداخل الأعراف والممارسات والتقاليد، وكأن الكتابة النسوية منذورة للرد بنبرة وجدانية على حالة التغالق والانفتاح التي يبديها الوعي الذكوري التنميطي للمرأة على الدوام، وعليه تبدو هذه الرواية وكأنها مهمة تثقيفية أنثوية صرفة بهذا الشأن، لإفهام الرجل مقومات الكائن الأنثوي، ولتكف النساء عن لعب دور المرايا المضخّمة لدور وحجم الرجل، اتكاء على فكرة ميل المرأة الطبيعي إلى الفضيلة وامكانية ممارستها تأثيرا اخلاقيا ايجابيا على الرجال، بما هي قرينة الحق والخير والجمال،كما تميل الكتابات ذات النزعة النسوية.
ولكن ليلى الجهني تمارس بعض الإستثناء الروائي، حيث تطرق في روايتها " الفردوس اليباب " موضوع الحب من منظور وخبرات التجربة الحسية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى كتابة صادمة بالنظر الى حتمية أن يكون الفعل السردي مثيرا وبالتالي متخففا من صرامة الأعراف والأخلاقية، مع التأكيد على أن النزعة الوعظية يمكن أن تقتل الرومانسي داخل ذلك النمط من الفعل الروائي، وهذا ما حاولته في مزدوجة الخفاء والتجلي، بمعادلة سردية تقوم على الصمت والإفضاء، والتي يصعب استيعابها أو الدفاع عنها فنيا بسهولة، عند تحليل مضامين القوة التي تتأسس بحس استبطاني لإبراز الإنسان، يدخل بمركباته النوعية في علاقة من التدافع لخلع قوة أخرى أو إقالتها من خلال طاقة التمثل السردي كمعادل لقوة الحياة، أو هذا ما تبين عنه الرواية النسوية السعودية عند تحليل شكل التمثل في انتاج اللغة كمكون بنيوي يتناغم بالضرورة مع قدرة الروائية خارجه.
هكذا يبدو التنوع الأدائي، والتعدد الموضوعاتي في ذلك الشتات الروائي، فهو ليس دلالة حيوية، بقدر ما يتبدى كعنوان عريض للهروب من استحقاقات الذات ومستوجبات الكتابة بما هي شكل للحضور والهوية، فهي لا تثاقف لحظتها، بل تنفصل أحيانا حتى عن موضوعها، حيث تتشاغل بذاتها الروائية فتعجز عن ادراك الذوات المغايرة لها، ربما لأن القلم لا زال هو المعادل لكل ما هو ذكوري، فعندما حصلت المرأة على التعليم، وامتلكت نبرتها الخاصة لم تأخذ حق التجربة كأس للكتابة الروائية، وبالتالي بتن عاجزات عن الكتابة بحرية، وهو ما يبدو بشكل جلي في ذلك النمط السردي بكل ما يعتوره من عوز في التجربة الحياتية والخبرات الثقافية.
وقد يتعلق الأمر بارتهان الرواية النسائية السعودية إلى معايير نسوية محضة، تبالغ في الإتكاء على أيدلوجيا الاضطهاد وتضخيم سلطة الخوف من الذكوري بما يحتمه الخطاب الإجتماعي من قوامع وما يستتبع ذلك من شرعنة مؤسساتية لمصادرة الصوت النسوي، بحيث تقصي النساء عن الكتابة الفاعلة، حيث يتحركن بكتاباتهن في عالم الرجال كقدر، فما زلن يفكرن من خلال أمهاتهن، وذلك ما يبدو واضحا وممكثا عند قماشة العليان بمتوالياتها الروائية والقصصية ( أنثى العنكبوت - عيون على السماء - بيت من زجاج - بكاء تحت المطر ) حيث الإلتصاق بالسببية الإجتماعية والتاريخية والثقافية، والتعبير عنها بسردية شكلانية وليس ضمن علاقات لغوية تعكس استبطانات الصيرورة الخفية لمفاعيل السلطة، أو مفارقاتها الخفية، فهي غير متأتية ضمن الصيرورة الروائية المولّدة للصوت الواعي بمعنى القوة كفعل محايث للحداثة الإجتماعية.
إذا، الروائية السعودية خاضعة بشكل واضح لتأثير التقاليد. وقد يصح التحليل القائل بأن المرأة تخاطب جمهورا من النساء، لكنها تعرف تماما كما هو حالها دائما أن الرجال يسترقون السمع، وبالتالي تتورط في مأزق اللغة والشكل فنيا، ومسألة اعادة الاعتبار البيولوجي والثقافي للمرأة في عالم تتقاسمه مع رجال على درجة من العناد الحقوقي، ولذلك لا يبدو أن إقصاء الرجل من الجمهور مسألة ممكنة استراتيجيا، وهو ما يفسر نبرة التباؤس وانخفاض روح التحدي، ليس بالمعنى الحقوقي ولكن بمعنى الإعتقاد العاطفي وتمثله روائيا ، بحيث لا تنأسر الى النزعة الرومانتيكية الساذجة، كما حللتها الكتابات النسوية، حيث عن صلة الكاتبة بالشخصية الرومانتيكية المغتربة، فعندما تختفي نبرة الغضب فهذا يعني أن الروائية محتواة أصلا بالقيم الثقافية الذكورية السائدة، إذ غالبا ما تؤدي وظيفة أو صورة انقسام ذاتها، أي الرغبة في قبول بنى المجتمع البطرياركي ورفضها في الوقت ذاته، ولكن دون إبداء أي مقاومة مقنعة من خلال الفعل الروائي.
وربما يتعلق الأمر بعطالة المخيلة الأنثوية كطريقة لادراك العالم، لأن الابداع يتطلب شروطا معينة ظلت غائبة بالنسبة للروائية السعودية، فالظواهر الفنية المتماثلة والمتكررة وفي مقدمتها تمركز السرد حول الإنوثة التي يصار الى تأكيدها والإحتفاء بها من خلال الجسد وهو ما يقصي المرأة عن تعاليات النوع الكتابي الى محدودية الخطاب، ربما لأن المرأة عندما تكتب الرواية بآلية مغايرة تكون الذات هي مركزها، فاذا ما تجاوزت رواية شيئا من ذلك الحاجز الفني بدأ البحث عن الرجل الذي يقف خلف الروائية بشيء من التشكيك.
وقد يتعلق الأمر بمقروئية مجحفة، تساوي عدم قراءتها أصلا، حيث الاستخفاف بمنتج روائي غير ناضج، حسب التصورات التنميطية، فالرواية النسائية السعودية لا ينظر اليها أحيانا إلا كبنية دفاعية، أو صورة من صور المقاومة الإجتماعية للسطوة الذكورية، ومحاولة يائسة للحضور، فبعض القراءات المبيّتة لا تصنفها إلا كحالات من التكاذب، تماما كما ينظر لمجمل الأدب الأنثوي كمحاولات للتماس بعوالم يحتلها الرجل، أي كحبكات للإغراء والغزل، عند تحليل شكل الاندساس الذي تبديه الروائية للدخول الى عالم الكتابة، وهو ما قد يخضع ذات الروائية لمحاكمة نفسية من خلال رواياتها، أو قد تتأولها القراءات كسجل إجتماعي يحيل الى شيء من المطابقة الببليوغرافية لمنتجة النص الروائي، عوضا عن مقاربته كنص أدبي، رغم أهمية أن يعكس جانبا من تجربة الراوية.
ويبدو أن الأمر بحاجة إلى دراسة تشريحية للنساء المنتجات للرواية السعودية وتأمل وضعهن من حيث علاقتهن ليس بمفهوم الكتابة وحسب بل وبمعنى الحداثة الاجتماعية، بمحايثة ذلك الانتاج الروائي الآخذ في التمثل ازاء بقية الخطابات، فما بشرت به انعطافات كثيرة ولافتة، تأسس على مراكمات وإزاحات جوهرية في القوانين والأعراف والعادات، وكذلك فيما توارثته الأجيال النسوية لمعنى الكتابة والهوية الجماعية للكاتبات بوجه عام داخل الفعل الروائي، أو هذا ما ينبغي التأكيد عليه لتوسيع تلك الذات الجمعية، كما تحدث الآن ضمن شرط أو إطار تاريخي، توليدا لقيم مغايرة، فهنالك حالة من التواشج بين الظروف المادية لحياة الروائيات وأشكال تعبيرهن، والتلازم بين ما يجري في الحياة والنص انعكاس مجازي للحداثة الاجتماعية، يتم بالضرورة عبر تمثلات الذات وانفعالا باللحظة والمكان والموضوع
الأديب محمد العباس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق