الخميس، 29 أبريل 2010

"المتواطئة على نفسها" في القص السعودي: نورة الغامدي، عواض شاهر العصيمي

"المتواطئة على نفسها" في القص السعودي: نورة الغامدي، عواض شاهر العصيمي أما في القصِّ السعودي الراهن، فسوف نجد المرأة تتخذ أقنعةً أخرى مغايرة لما سبق، سواء كان الكاتب رجلاً أو امرأة. فجل التجارب الآنية تحاول أن تفتح ثقبًا في خيمة الخصوصية الخليجية لكي يلصقَ القارئ عينيه ويتلصص على خبيئة المجتمع البدويِّ البطريركيِّ الذي يضع المرأة في خانة مراتبية أدنى، وإنْ ظل يرفع شعاره المكرور بأنه إنما يحميها، وكأنها كيانٌ ناقص لا بدَّ أن "يُحمى"، لا أن يحمي نفسَه بنفسه. بعضهم يلجأ إلى الفضح المباشر الذي يقترب من الفجاجة الأسلوبية، كما في رواية بنات الرياض، وبعضهم يتوسل الأليغوريا أو الرمز في تسريب رسالته الفنية ببراعة، مثلما سنجد في مجموعة تهواء للقاصة السعودية نورة الغامدي. ونلحظ غيابًا تامًّا لصوت الأنثى في القصة المعنونة "كُم جدي"، حيث لن نحدد أبدًا ما هي طبيعة صوت الراوية السارد، أرجلٌ هو أم امرأة. الراوية يتحدث طوال الوقت عن الجد صقر. وبإخضاع النص لعملية إحلال دلاليٍّ سوف نجد أن الجَّد "صقر" ربما يرمز إلى القومية العربية، الحلم المهدورُ دمُه على عتبة أنظمة عربية رخوة. والابن المعاق بعاهة في فمه أفقدته النطق ليس إلا تلك الأنظمة. وأما "الناظور"، الذي يشبه "صندوق الدنيا" في فولكلورنا المصريِّ، إن هو إلا اللاهوت أو الميتافيزيقا في استشراف الغيب التي سوف يتوسلها صقر في نهاية الأمر حين يعمل على إغواء الخلق وتغييبهم برضائهم الكامل. وعلى طول النص، سوف نجد ما يكرِّس هذه المزاعم التأويلية. على أن غياب الأنثى يكرِّس فكرة أن الوطن والقومية والعروبة قد أضاعها رجال. وعلى هامش ذلك قد يرمز أيضًا إلى أن غياب الأنثى وراء كلَّ خسارة وكل فقد. على العكس مما سبق، نرى النص النقيض، في المجموعة ذاتها، وعنوانه "الطاقية" الذي يحفل بالأنثى ويحتشد بها إلى حدِّ غياب صوت الرجل، على الرغم من حضور سطوته حضورًا غير مباشر. دمعةُ العروس في صورة الزفاف سوف تسقط لتتحول إلى طاقية تعتمرها البنتُ مدى عمرها، كرمز حاضر على قمعها وتسكينها طوال الوقت في خلفية المشهد. وسوف يتجلَّى هذا الهرم المراتبي hierarchical الذي تناهضه المؤلِّفة في قولها على لسان امرأة تصفُ ترتيب وضع أفراد العائلة أمام التلفزيون: الرجال والصبيان في المقدمة، تليهم العجائز الكبيرات، فالنساء اللاتي يسمح لهن أزواجُهن بالمخالطة، ومكاننا الصف الأخير، الرؤيةُ من البعد عذاب! في صورة مشهدية كهذه تتلخَّص مشكلة مجتمع بأسره – مجتمع يجعلُ من النوع أساسًا للتراتب القيميِّ، بدلاً من أن يكون الأساسُ هو العملَ وقوةَ العقل. وجاء عنوان المجموعة موفقًا، على غرابته وعدم شيوعه لغويًا. إذ إن "تهواء" هو هزيعٌ من الليل، أو قسم منه، ما يشي بأن الكاتبة ترصد قطعةً مظلمةً من تاريخ الأمة الراهن. على أنها لم تخترِ "الليل كلَّه" بظلمائه المستطيلة، بما يشي بالأمل في أنها حالٌ مؤقتة وليست سديمًا أسودَ ممتدًا. كذلك سنجد في رواية بديعة أخرى عنوانها أكثر من صورة وعود ثقاب بقلم السعودي عوَّاض شاهر العصيمي المرأةَ وقد كشفت عن تواطئها على نفسها بنفسها. وعلى الرغم من أن الكاتبَ رجل، وعلى الرغم من ضجري من مصطلح "الكتابة النسوية"، الذي يتحرش بعباءة كلِّ كاتبة وقلمها، فتظل متهمةً به إلى أن تثبت براءتها، إلا أنني سيطيب لي أن أشير باطمئنان إلى الخيط الأنثوي في هذه الرواية: بمعنى أن الجمالَ في هذا الكون هو امرأة. فعلى الرغم من خلوِّ الرواية من قصة حب واحدة، إلا أن الأم المشلولة سجود ستمثل العنصر البديع للجمال والحياة وسط كائنات ذكورية بالغة العبث والفوضى. الشخوص: حافل، الابن، وأم مقعدة لم تعد سوى "كرتون من الحاجات الزائدة"، بتعبير زوجها الذي "غاب في عباءة امرأة شامية شابة وجميلة تدب على قدميها وبقيت هي على كرسي متحرك في بيت فارغ". الأب سعودي والأم من أصل حضرمي. وهنا خيط آخر يناقش الوضعية الاجتماعية لليمنيين في المملكة. صحيح أنها أدارت رأسه بملاحتها بمجرد أن لمحها صبيةً في متجر أبيها، فسعى لنيلها بدلاً من صديقه الذي كان أوكله لخطبتها، وصحيح أنها كانت نِعْمَ الزوجة وأنها أنفقت ثروتها الضخمة كاملةً عليه وعلى بيتها، وصحيح أنها أنجبت له الولد الذي لم يستطع أن يأتي به من سواها من النساء، لكنه على الرغم من ذلك كلِّه (أم ترى بسبب منه؟) هجرها بمجرد أن مسَّ العجزُ ساقيها، ثم تهافت وراء امرأة كلُّ رصيدها في الحياة حداثة سنها وعينان زرقاوان! سنلمس تواطؤ المرأة على نفسها مع الرجل لكي يوغل في ظُلمها حين تتلمس الأم الأعذار لزوجها الذي هجرها، ما يكشف النقاب عن طبيعة المجتمع البطريركي الذي ساهمت المرأةُ بالنصيب الأكبر في صناعة طواغيت رجاله. العلاقة بين الضُّرتين التي رسمها الروائيون في مجلدات ضخمة، يوجزها لنا العصيمي في سطور قليلة شديدة البلاغة والتقشف: تشبه العلاقة بين عمودين متجاورين يحملان سقف بيت واحد لكنهما لا يلتقيان، ولو التقيا لسقط البيت. لكن البطل الرئيس في هذه الرواية، في زعمي، هو المكان: "حارة المساكين" كرمز للمجتمع العربي البدوي الذي يحكمه الكثير من مشكلات الوعي والحرية والعدالة. المكانة التراتبية للمرأة العربية والشاهد أن المرأة الشرقية غير مَعْفية تمامًا من مسئوليتها عن تلك النظرة التراتبية التي حصَّلتها عبر التراكم التاريخي الإرثي، فداخل مكونِنا التراثي والمعرفي – رجالاً ونساءً – تقبعُ تلك الدوغما النوعية التي تكرِّس المرأةَ كائنًا من الدرجة الثانية. فتجد الصبية لا تندهش من تمييز أخيها عليها: قد تغضب وقد تثور، لكن ثورتها وغضبها ينطلقان من البنية الفوقية، لا من البنية التحتية الطبيعية – البنية الفوقية تلك التي حصَّلتْها من قراءة ما كتبه هؤلاء "التنويريون" الذين ينشرخ صوتُهم بالمناداة بحقوق المرأة، في حين يحمل معظمهم (ولن أقول "كلهم" للفرار من الإطلاقية) عقلاً شرقيًّا لا يتعامل مع الأمور إلا من خلال منظور طبقيٍّ نوعيٍّ ثنائي. وربما عند هذه النقطة أكون قد وضعت إصبعي على بداية المشكلة: العقلية الثنائية. فالذهنية العربية القديمة هي ابنة بامتياز للثنائية في أعمق صورها. البدوي القديم بنى فلسفة الوجود على الثنائيات: الليل والنهار، الشمس والقمر، الأخضر واليابس، الخير والشر، العذب والمالح، المرأة والرجل، الأبيض والأسود، مغفلاً أن بين هذين اللونين ستة عشر مليون لون بدرجات انعكاس وامتصاص للضوء وأطوال موجية متباينة؛ والقياس هنا أنه أغفل التباين الفردي انتصارًا للتباين النوعي. على أن الألوان جميعَها في النهاية هي لونٌ واحد؛ والقياس هنا أن أصلَ النوع هو الإنسان. المرأة – بيدها لا بيد عمرو أو زيد – كرِّستْ في كثير من الأوقات أسبابَ تغييبها: فالبنت التي ضجَّتْ قديمًا من تمييز شقيقها عليها هي التي ستميز بنيها على بناتها، وهي التي ستكرِّسُ حقنها بالموروث السَّلفي الذي يعلِّق الأنشوطة في جيدها إلى الأبد. وأنا لا ألقي بظلال التبعة على المرأة وحدها ولا على الرجل، لأن عصورًا طويلةً من الإرث لعبت فيها المرأةُ، راضيةً أم صاغرة، دورَ أداة استمتاع وخدمة للرجل، لا يمكن أن تنمحي بقرار أو تحقيق أو بمؤتمر، لكن خللاً وتصدعًّا في البنية الفكرية وفي المنظومة الاجتماعية لا بدَّ أولاً أن يُرأب. التجربة التونسية الرائدة نحو إعلاء مكانة المرأة وهنا تجدر بي الإشادةُ بالتجربة التونسية الإصلاحية التي كان لها السبق والريادة – وأخشى أن أقول التفرد أيضًا حتى الآن – في الأخذ بيد المرأة نحو المكانة التي تستحقها كندٍّ للرجل، مساوٍ له في حقوقه وواجباته كلِّها – تلك التجربة التي بدأت إرهاصاتُها الأولى بالكتاب المبشِّر امرأتنا في الشريعة والمجتمع الذي صدر في العام 1930 وألَّفه أول المنادين بتحرير المرأة المفكر الطاهر الحداد. ثم تجلَّت هذه الأفكار كتجربة حية ملموسة مُشرَّع لها من قبل الدولة بصدور مجلة الأحوال الشخصية في العام 1956 التي نحتفل بمرور خمسين سنة على صدورها – تلك المجلة التي جعلت كل امرأة عربية تحسد نظيرتها التونسية على ما نالته من حقوق اجتماعية بتطويب رسميٍّ وشرعيٍّ من حكومتها. ومن هنا أتمنى على – بل وأنادي – بقية مجتمعاتنا العربية أن تحذو حذو تونس في تجربتها الرائدة لكي تناول بقية العربيات شيئًا من حقوقهنَّ التي أُهدِرَتْ على يد المجتمع والسلفية والخرافات. فإذا كان أمام طليعة المجتمع، متمثلةً في الساسة والنخبة المثقفة، معركةٌ صوب التحديث ومجابهة الغزو الغربي ومحاولة تغيير الخطاب السلفي، سواء الدينيِّ أو الثقافي، ومحاولة الإصلاح الثقافي والفكري العربيَين، فإن أمام المرأة معارك ثلاث من أجل بناء منظومة صحية من شأنها تعديل مفهوم المرأة عن نفسها أولاً ومفهوم المجتمع عن المرأة ثانيًا: معركة مع مكوِّنها الذاتي، ومعركة مع المكوِّن الثقافي الإرثيِّ لمجتمعها، ثم معركة مع الآخر الغربي لمحاولة تصحيح التصور – الحقيقي – عن تدنِّي دور المرأة في المجتمعات العربية. وفي زعمي أن أصعب تلك المعارك الثلاث هي المعركة الذاتية، أي معركة المرأة/المرأة، وأزعم أيضًا أن في نجاحها بداية صحية وحقيقية لكسب نقاطٍ في المعركتين التاليتين. فلو نجحت المرأة في رؤية نفسها كإنسان – إنسان وحسب – يحمل عقلاً لانوعيًّا، كما قال كولريدج، ستنطلق فلسفتُها تجاه الوجود وتجاه ذاتها من تلك الرؤية وتجد لزامًا عليها أن تضطلع بمسؤولياتٍ صوب الحياة لا تقلُّ – ولا تزيد – عن مسؤوليات الرجل. إذ إن انقلابًا جذريًّا – ولا أقول تعديلاً – في نُظُمِ التعليم، والدستور، والتفعيل السياسي والإعلاميِّ أحرى به أن يتم قبل أن نتكلم على ضرورة مشاركة المرأة في الفعاليات والإصلاح. يلزمُ الحرثُ في تربة صالحة ممهدة، وإلا حصدنا نبتةً شوهاء غير متسقة الخلايا. لأن من أسباب انهيار الثقافة العربية طوال الوقت أنها تسير بخطًى عرجاء على ساق واحدة (الرجل) في ظلِّ غياب للمرأة يكاد أن يكون تامًّا. الرجل يكتب عن المرأة ويكتب بالنيابة عنها؛ والمرأة تكتب عن المرأة من أجل الرجل ومن خلال عينَي الرجل؛ غير أنهما لا يسحبان ما كتباه على محكِّ التجربة. فلمسيرة المرأة الصحية نحو التقدم والتفاعل الحقيقي عدوان: المرأة والرجل. المرأة الغربية ومعركتها نحو التحرر وكيلا أبدو متحاملةً على الكيان الشرقي، يجب القول إن المرأة الغربية لم تنجُ تمامًا من ذلك الإرث ذاته. ربما تخفَّفت منه في الوقت الراهن، غير أنها رزحت تحت وطأته حتى نهايات الحرب العالمية الثانية. ولعلَّنا نجد ذلك جليًّا في معارك فرجينيا وولف وعشرات المقالات التي كتبتْها حول المطالبة ببناء إرثٍ أدبيٍّ جديد بقلم المرأة ذاتها ولذاتها بعيدًا عن المُنجز الأدبيِّ الذكوري الذي تراكم حول المرأة – وفوق عنقِها – بوصفها "موضوعًا للكتابة". فرجينيا وولف، التي لم تتلقَّ تعليمها في المدرسة كأشقائها الذكور، على عادة الأسر الفكتورية آنذاك، عبَّرت، عبر مشروعها الأدبي، عن ملامح الرفض والثورة على التمايز النوعيِّ في مقالات كثيرة رصدت خلالها تباين التوجهات الاجتماعية نحو كلٍّ من المرأة والرجل، رافضةً أن تكون الحتمية البيولوجية أساسًا للتمايز بين الجنسين. أهم تلك المقالات اثنتان جُمعتا في كتابٍ بعنوان غرفة تخص المرء[1][2]، ناقشت فيهما موضوع كتابة النساء، أو النساء وفعل الكتابة. رصدتْ صمت النساء اللواتي "خدمن طوال قرون باعتبارهن مرايا ذات قوة سحرية بوسعها أن تعكس صورة الرجل بضعفه الحقيقي". وتحدثت عن النساء اللواتي تمَّ إقصاؤهن خلال قرون مضت ومنْعهنَّ من الدخول إلى المكتبات، أو السير على عشب الجامعة "المقدس". غير أنه فيما أُقصِيَ جسدُ المرأة الفعلي عن المؤسسة الثقافية، ظلت المرأة دومًا كـ"جسد" موضوع المجاز الأدبيِّ والتعبير الفنيِّ لدى الكاتب الرجل، وكذلك مادة استقراء لدى مختلف الدراسات الپسيكولوجية والسوسيولوجية. واعتمد الرجال على النساء ليكنَّ الشاخص الجاهز لتصويب السهام، والشاشة التي تُعرض عليها النظرياتُ والإخفاقاتُ الذكورية. فـ"الرجل لا يرى المرأة إلا في أحمر العاطفة، لا في أبيض الحقيقة"، بتعبير وولف. وربما تذكرنا تلك الفكرة – الحقيقية إلى حدٍّ بعيد – حول المرأة من خلال منظور الرجل والمجتمع بكتاب الجنس الآخر للكاتبة سيمون دو بوڤوار، الكتاب الذي تُرجِمَ إلى لغات العالم كلِّها تقريبًا قبل نحو خمسة وخمسين عامًا والذي قالت فيه ما معناه إن المرأة لا تولد أنثى بالمعنى التداوليِّ التنميطيِّ للكلمة، لكن المجتمعَ يجعلها كذلك. ربما تعود أهمية الكتاب إلى أمرين: الأول مادته المجترئة على المجتمع الراكن إلى تقاليده الراسخة آنذاك، التي اطمأنت إلى تهميش المرأة برضائها الكامل، ثم جاء الرجل ليكرِّس ما ارتضته المرأة لنفسها بمزيد من القوانين التي تتفق ومصالحه الخاصة واستهلاكه الشخصي؛ الأمر الثاني الذي أكد أهمية الكتاب يعود إلى ثِقل مؤلِّفته دو بوڤوار ومكانتها، بوصفها الناشطة والمفكرة المهمة التي شاركت الفيلسوف جان پول سارتر شطرًا فعالاً من حياته، فكوَّنا معًا ثنائيًّا فريدًا في المشهد الفرنسي والعالمي آنذاك. وقد لعبت دو بوڤوار دورًا حقيقيًّا في تنشيط الحركة النسائية الأوروبية والعالمية، خاصة بعد الثورة التي فجَّرها الطلبة في فرنسا في العام 1968. وكان لهذا الكتاب أثرٌ بالغ في دفع الحركة النسائية في فرنسا وأوروبا، بل وعلى الصعيد العالميِّ على الرغم من محاولات منع توزيعه في البداية في بعض البلدان الأوروبية، مثل إسبانيا. في المحاضرتين اللتين ألقتْهما في العام 1928 في جامعة كمبريدج، أطلقت وولف مقولتها الشهيرة: "إن النساءَ لكي يكتبن في حاجة إلى دخل ماديٍّ خاص، وإلى غرفة مستقلة ينعزلن فيها للكتابة." نُشِرَتْ المحاضرتان في الكتاب السابق ذكره، وصدر في العام 1929. وقد تناولت فيه تاريخ مشروع أدبيٍّ تحاول أن تكتبه امرأة، وأشارت، للتدليل على التباين بين المتاح للرجل الكاتب وبين المتاح للمرأة الكاتبة، إلى جوديث، شقيقة شكسپير، وكيف أن الحيف الذكوريِّ أزاحها عما يُفترَض أن تكونه ككاتبة مرموقة انتصارًا لشكسپير "الذكر"، على الرغم من إقرار الجميع بفطنتها ونبوغها في الكتابة. أشارت أيضًا إلى جين أوستن[2][3] التي كانت تخبِّئ دفترها بمجرد أن تسمع صرير مزلاج الباب! تلك الأمثلة، وغيرها مما ساقت فرجينيا في كتابها، تخلص إلى المبرر الإنساني والعملي وراء حتمية حصول المرأة الكاتبة على مناخ يشبه المناخ ذاته المتاح للكاتب الرجل: مثل غرفة مستقلة توفِّر قدرًا من الخصوصية للمبدعة، وأيضًا حقها في شيء من الاستقلال الاقتصادي. إذ لم يكن مقبولاً في عصر فرجينيا أن يكون للمرأة مالُها الخاص، ولم يكن متاحًا لها أن تختار مصيرها اختيارًا مستقلاًّ مثل الرجل. ومن أقوالها الشهيرة في هذا الكتاب: ما أبغض أن يُسجَن المرءُ داخل غرفة، وما أسوأ، ربما، أن يُحرم من دخول غرفة مغلقة. وتتعرض وولف في الكتاب ذاته للعراقيل والممارسات المجحفة التي تعترض تطور مشروع المرأة الأدبي والثقافي، وتحلل الاختلافات بين المرأة بوصفها "شيئًا" أو "موضوعًا" يمكن الكتابة عنه وبينها كـ"مؤلف" أو كـ"مبدع". وقد أكدت أن ثمة تغييرًا واجب الحدوث في شكل الكتابة بوجهٍ عام لأن "معظم المنجز الأدبيِّ كتبه رجالٌ انطلاقًا من احتياجاتهم الشخصية ومن أجل استهلاكهم الشخصي". وفي الفصل الأخير، تكلمت وولف عن إمكان وجود "عقل بلا نوع" (أي لا يحمل السمة الذكورية أو النسوية)، واستشهدت بمقولة كولريدج Coleridge: "العقل العظيم هو عقل لا يحمل نوعًا، فإذا ما تمَّ هذا الانصهار النوعي يغدو العقل في ذروة خصوبته ويشحذ طاقاته كافة." وأضافت وولف : "العقل تام الذكورية ربما لا ينتج شيئًا أكثر من العقل تام الأنثوية." أما في مقالة ثلاث جنيهات[3][4]، المنشورة في العام 1938، وهي مقالة تناقش فكرة المساواة والدعوة للسلام وتُعَد المقالة المتممة لمقالة غرفة تخص المرء، اختبرت وولف إمكانية مطالبة النساء بإنشاء تاريخٍ خاصٍّ وأدب يخصُّ المرأة وحسب. وربما في هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أنني لا أميل إلى تصنيف الكتابة ذكوريًّا ونسويًّا، ولا أدري لِمَ خُصَّ فن الكتابة تحديدًا بهذا التقسيم النوعي، في حين لم نتبنَّ التمييز ذاته في الفنون الأخرى من موسيقى ونحت وعمارة وتشكيل إلخ. فالمرأة إنسانٌ يرى الوجود وينشغل بمحنته على النحو نفسه الذي يفعل الرجل. ربما كانت للمرأة عين ترصد التفاصيل وتسبر الغور بآلية مختلفة، لكن تلك الفروق الفردية باديةٌ كذلك كبصمة الإصبع بين كائن وآخر. وفي النهاية يصحُّ أن نتساءل عن المسئول الحقيقي وراء ذلك العسف الواقع ضد المرأة المبدعة. أهو القهر الواقع على الرجل، اقتصاديًّا وفكريًّا وسياسيًّا، ومن ثم أفرز ذلك القهر إما تخلفًا في معاملة المرأة، وإما أفرز طاقةَ قهرٍ مضادة يصفِّيها الرجل في الكائن الأضعف: المرأة؟ أهو النظام الثقافي والاجتماعي الآخذ في التحلل، أم هو التأويل الخاطئ للدين الذي جعل الرجل يتحسَّس مسدسه كلما أمسكت المرأة قلمًا وورقة، باعتبارها "ناقصة عقل"، بينما فعل الكتابة يتطلب عقلاً كاملاً، بل ألِقٌ. ولعلَّ ذلك وراء نظرة النقاد إلى معظم ما تكتبه المرأة باعتباره بوحًا شخصيًّا، لا فكرًا وإبداعًا. فالكائن "الناقص" قد يبوح بلواعجه، لكنه لا ينتج فكرًا. المرأة تحمل وزرًا جاهزًا يولد معها هو نوعها، والكتابة تضيف إلى وزرها إثمًا جديدًا. وعلى ذلك، فهي المتهم المذنب حتى تَثبُت براءتُه بجهد جهيد فقط كي تثبت أنها محضُ إنسانٍ خلوٍ من النقص، فضلاً عن الويل الذي تلقاه لتثبت أنها أعلى قليلاً من ذلك. أرجو ألا أكون عدمية حين أقول إننا نحيا عصرًا حديثًا ومابعدحديث بأجسادنا، غير أن الكثير منا مازال يخبَّئ داخل عقله كيانًا بدويًّا تقليديًّا، بكلِّ خيامه ونوقه وصحاريه!المرجع .http://www.maaber.org/issue_may07/literature2.htm

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق